المنشورات
فن استقاء الأخبار:
ويمكن للصحفي أن يستدرج البسطاء حتى يدلوا بكل ما لديهم من أخبار. لقد أثار اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في الفترة ما بين الحربين العالميتين ضجة عالمية كبرى، وكانت صحيفة التيمس تحتكر نشر هذه الأخبار نظير مبلغ مائة ألف دولار من أجل الانفراد بالقصة. غير أن صحفيا أمريكيا اقترب ذات يوم من أحد المصريين العاملين في المقبرة وبادره بسؤال "هل يمكن أن تحكم في خلاف شديد استحكم بيني وبين زملائي؟ " وعندما أظهر المصري استعداده لذلك سأل ويليمز -وهذا هو اسم الصحفي- عما إذا كان هناك تابوت واحد أم تابوتان؟ فأجابه المصري بكل بساطة: تابوت توت عنخ آمون؟ هل هذا ما تقصده. إن خاتم الملك على التابوت، وهو بحالة جيدة. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد بوجود الجثة في التابوت. وهكذا هدم ذكاء الصحفي احتكار التيمس والمائة ألف دولار.
وحدث أن كان اللواء محمد نجيب يلقي بحديث هام في مجلس قيادة الثورة لمحطة إذاعة أمريكية، فاقترب أحد الصحفيين المصريين من المهندس الأمريكي الذي كان يشرف على الصوت، وسأله عن الأجهزة، وأوهمه بعدم المعرفة، فأخذ المهندس الأمريكي يشرح له، وحانت الفرصة للصحفي أن يضع السماعات على أذنيه ويسمع حديث الرئيس كلمة كلمة، وينقله إلى صحيفته فينفرد بسبق عظيم.
وحدث أن كان أحد عمال اللاسلكي يقضي جزءا من وقت فراغه في مخزن وكالة الأنباء في بوسطن بأمريكا، عندما كان يحرك مفتاح جهاز راديو بهدف التسلية فاستمع إلى دقات تطلب النجدة من البحرية الأمريكية، ولما فهم مضمون الرسالة جيدا صاح قائلا: "لقد اصطدمت الباخرة تيتانيك بجبل ثلجي عائم في المحيط، إنها تطلب النجدة، وقد سمعتها الآن".
وبالفعل تأكد الخبر، وكان نتيجة مصادفة من جهة ومجازفة من جهة أخرى؛ إذ صدق مراسل وكالة الأنباء ما قاله العامل!
ويقول أحد الصحفيين أن هناك مفاتيح للشخصيات لا بد للصحفي أن يعرفها لكي يصل إلى الأخبار ... مثلا كان يهمني أن أعرف أن نوري السعيد -رئيس وزراء العراق الأسبق- يكون في أسعد حالاته النفسية عندما كان يوجد مع حفيدته وزوجة ابنه، ومن هنا كنت أحرص على أن لا أسأل نوري السعيد في السياسة، إلا إذا رأيته في منزلة محاطا بأحد أحفاده أو بزوجة ابنه "صباح".
وكذلك كان يهمني أن أعرف أن مفتاح الدخول إلى قلب توفيق السويدي -أحد ساسة العراق السابقين- هو الحديث عن الاقتصاد والبنوك وأسهم البنك العربي. وبعد ذلك يفتح السويدي لي كل ما عنده من الأسرار. أما توفيق أبو الهدى -أحد ساسة الأردن السابقين، فقد كانت ابنته "سعاد" هي مفتاح أسراره، ومن هنا كنت أستعين بسعاد على أبيها، أو أستعين بأخبار سعاد وقصصها لكي أدخل إلى قلب أبيها بلا استئذان.
وكانت قصص الصيد والبنادق، ورحلات الصيادين هي مفتاح الدخول إلى قلب كميل شمعون، رئيس جمهورية لبنان الأسبق، أما سلفه الشيخ بشارة الخوري فقد كان أديبا، واسع الاطلاع، يعتني باللفظ والعبارة، وكانت أخبار ولده الشيخ خليل تحتل حيزا كبيرا في قلبه. ومن هنا كان مفتاح الدخول إلى قلب الشيخ بشارة أما الحديث في الأدب، أو في الشيخ خليل.
وكان صالح جبر -أحد رؤساء وزارات العراق- يكره نوري السعيد، فكان كل همي لكي أرطب لصالح جبر أعصابه، وأحصل منه على الأسرار أن أبدأ الحديث بصب اللعنات على نوري السعيد.
أما المرحوم هاشم الأتاسي، رئيس جمهورية سورية السابق، فقد كان يهوى حيث الذكريات عندما كان "قائم مقام تركيا" في عكا عام 1932 ميلادية كان المرحوم يعتقد أنه في ذلك المنصب قد بلغ أوج العظمة والمجد، وعندما كنت أقابله في قصر "المهاجرين" بدمشق، كان الحديث يبدأ بذكريات عكا، وينتهي بذكريات عكا، وخلال الذكريات تتسرب الأسرار.
وكان "عبد الإله" وصي عرش العراق ثم ولي عهده، يحب الحديث عن الكلاب، وكان صبري العسلي -أحد رؤساء وزارات سوريا السابقين- مغرما بالحصول على أخبار نادى الشرق، ومن ربح في "اللعب" ومن خسر؟ ومن كان هناك، ومن لم يكن.
وكان رشيد كرامي زميلا لأخي الصغير بالقاهرة فكنت لا أبدأ حديثي معه إلا بالحديث عن الأخ الصغير.
وكنت أعلم أن زعيما عربيا كبيرا في دمشق يشكو من مرض معين فكنت أحرص على أن أمده بآخر أخبار الأدوية لهذا المرض.
وعندما كنت في مدينة برلين وطلبت تحديد موعد لي أقابل فيه رئيس البلدية وحاكمها "ويلي برانت" قيل لي إن ذلك ممكن بشرط أن أنتظر عشرة أيام. فأبرقت إلى ويلي برانت أقول له: "أنا على موعد غدا مع مستر أولبرخت ولا أريد أن أقابله قبل أن أقابلك، وأفهم منك حقيقة الموقف".
والمعروف أن أولبرخت هو زعيم ألمانيا الشرقية.
وبعد ساعة واحدة كنت مع ويلي برانت في مكتبه ببرلين الغربية.
ويروي أحد الصحفيين المصريين1 أنه حاول عبثا مقابلة الدالاي لاما ولكن كل جهوده ضاعت سدى، فلم يجد بدا من أن يربط أجزاء جسمه بالضمادات والقطن والشاش، ثم يطلب أن يحمل على "نقالة"، ويطاف به أمام مقر الدالاي لاما طلبا للشفاء، وبذلك حرك مشاعر هذا الزعيم المعبود، وطلب من حاملي النقالة أن يحضروه إليه، فتمت المقابلة.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)