المنشورات

أساليب الحصول على الأخبار:

ويمكن القول بوجه عام أن أهم أساليب الحصول على الأخبار هي الصداقة وتقديم المعونة والإيهام بالعلم والجرأة ودقة الملاحظة واستكناه الأحداث وتوقعها. ولا شك أن تكوين المصادر عن طريق الصداقة أمر معروف، حتى إن بعض وكالات الأنباء العالمية تصر على أن يكون المراسلون أعضاء في الأندية العامة، التي يتردد عليها الوزراء والمسئولون، وتذهب إلى حد سداد جميع الاشتراكات للمراسلين. ويتطلب الحفاظ على الصداقة احترام آداب المهنة وعدم إفشاء الأسرار التي يدلي بها المصدر إلى الصحفي. ومعنى ذلك أنه لا ينبغي للصحيفة -حرصا على ما يسمى بالسبق الصحفي- أن تستهين بهذه الأمانة، أو تعبث بسرية الأخبار.
"حدث في أمريكا أن اختطف طفل رضيع من عربته الصغيرة، ووضع الخاطف ورقة صغيرة يطلب الفدية، وأبلغ الحادث إلى البوليس الذي رأى من المصلحة إذ ذاك عدم إذاعة الخبر إلى أن يعاد الطفل إلى والديه، ووعدت الصحف بعدم النشر، إلا صحيفة واحدة رأت في الموضوع خبرا مثيرا للقراء، فنشرت الخبر، وتبعتها الصحف الأخرى في ذلك بعد أن أصبح الخبر معروفا. وكان لذلك أن فشلت خطة رجال البوليس، وعثر على الطفل الذي كان وحيد والديه بعد أيام جثة هامدة، وضاع كل أثر من آثار هذه الجريمة! وهكذا أفسد هذا السبق الصحفي الذي حرصت عليه الصحيفة خطة البوليس للتعرف على الجناة، وانحطت قيمة الصحيفة التي سعت إلى ذلك"1.
ويستطيع الصحفي أن يقدم بعض المعونات أو الخدمات للمصدر، مثل بيان أعماله الجليلة وشرح موقفه، دون إسراف أو مبالغة، مع الالتزام بالصدق في الرواية. ويسعد رجال الشرطة النابهون برؤية أسمائهم وصورهم في أعمدة الصحف، ولا بأس من ذلك ما دام معتمدا على الحقيقة الموضوعية. ولكن ليس معنى ذلك التستر على الأخطاء، أو استغلال الصحيفة للدعاية الرخيصة. ولا بأس أيضا من تقديم الهدايا في المناسبات كأعياد الميلاد وغيرها، دون مبالغة في ذلك. وقد لا يتعدى الأمر دعوة المصدر إلى تناول طعام الغذاء أو الغشاء أو مصاحبته إلى إحدى دور السينما أو المسرح أو تقديم بعض الهدايا للمصدر أو أسرته في المناسبات السعيدة كالنجاح أو الخطبة أو الزواج وكذلك مواساة المصدر في المناسبات الأليمة كوفاة أحد الأقارب مثلا. 

وقد يجد الصحفي أن أسلوب الإيهام بالعلم، وذكر بعض المعلومات، قد يستدرج المصدر إلى تصحيح تلك المعلومات، والإدلاء بالحقائق. ولكن هذا الأسلوب لا يصلح إلا مع المصادر الحديثة العهد بالصحفيين، أما القدامى والمتمرسون فكثيرا ما يفطنون إلى هذه الحيلة. والحق أن بعض الشخصيات تحاول أن تتظاهر بالعلم، وأنها عالمة ببواطن الأمور، فتدلي بما لديها من معلومات لتصحيح الأخطاء، وهذه فرصة ذهبية للصحفي يستقي منها الأخبار.
والجرأة من صفات المخبر الصحفي والمراسل الناجح. وقد رأينا أن بعض المراسلين العسكريين يغامرون بأرواحهم في سبيل الحصول على الأخبار، ومنهم من يشترك مع فرق الصاعقة والمظليين فيهبطون معهم بالمظلات. وقد يغامر البعض وبنضم إلى بعض الرحالة في رحلاتهم الخطيرة للوصول إلى قمم الجبال أو بلوغ المناطق القطبية، أو عبور البحار والمحيطات في سفن صغيرة مثل السفينة رع وغيرها. وقد تصل الجرأة إلى حد الاختفاء تحت منضدة أو أريكة في المؤتمرات الدولية الخطيرة. ومن المأثور عن الزعيم الألماني المستشار بسمارك أنه كان يفتش تحت مائدة المفاوضات ليتأكد أنه لا يوجد صحفي تحتها. ويروى أن أحد المترجمين الفوريين قد أحس، وهو جالس في كابينة الترجمة بصوت غريب، فالتفت تحت كرسيه، فوجد صحفيا قابعا يستمع إلى كل ما يدور من مناقشات باللغة التي يعرفها، من المترجم الفوري! ومثل هذا العمل لا يستطيع أن يقوم به إلا صحفي يتصف بالمخاطرة والجرأة الشديدة. وفي تاريخ الصحافة أمثلة لهؤلاء الذين وصلوا إلى أسرار المؤتمرات الدولية عن هذا الطريق.
ولا شك أن دقة الملاحظة واستكناه الأحداث وتوقعها، ومراقبة تحركات رجال السياسة والمسئولين، والربط بين الخيوط، وملاحقة أبطال القصة الأخبارية من أهم أساليب الوصول إلى الخبر الخطير. "ففي خلال أزمة 4 فبراير سنة 1942، التي أحاطت فيها الدبابات البريطانية قصر عابدين وأجبرت الملك فاروق على تعيين مصطفى نحاس باشا رئيس للوزراء، كان المندوب السياسي لإحدى الصحف المصرية يوشك أن يأوي إلى فراشه عقب عمل كثير شاق خلال النهار، عندما اتصل به رئيس تحرير الجريدة وقال له: "في الجو إشاعات عن أزمة سياسية" ثم طلب منه أن يتحرى الأمر. 

وبدأ هذا الصحفي يفكر من أين يبدأ وفي هذا الوقت المتأخر من الليل.
كانت الساعة إذ ذاك توشك أن تقترب من العاشرة مساء، ورئيس الوزراء -المرحوم حسين سري باشا- كان قد اعتاد أن يأوي إلى فراشه في منتصف العاشرة، ثم هو مع هذا اعتاد ألا يتحدث إلى الصحفيين، بل كانت هناك شبه خصومة بينه وبين الصحافة.
وكان السفير البريطاني في رحلة صيد خارج القاهرة، ورئيس الديوان الملكي ليس في منزلة، أو هكذا قيل للمندوب السياسي.
وفجأة طرأت له فكرة وهو يرتدي ملابسه باحثا عن نقطة البداية. وإذا كانت هناك أزمة، فلا يعقل أن يكون رئيس الوزراء قد نام فعلا، فلماذا لا يتجه إلى منزله؟ أو بمعنى آخر لماذا لا يحاول؟
واستقل سيارته، واقترب من بيت رئيس الوزراء، فوجد الأنوار كلها. مطفأة! أو لعل الستائر كانت تخفي الأضواء داخل المنزل، ووقف يفكر قليلا، وكاد أن يمضي بسيارته إلى "المجهول" لولا أن لمح من على بعد سيارة قادمة في اتجاه منزل رئيس الوزراء. لقد كانت سيارة السفير البريطاني الرولز رويس، المميزة بلونها الأصفر، ووقفت السيارة عند الباب، ونزل منها السفير البريطاني لورد كيلرن بقامته الضخمة وأسرع إلى داخل البيت، ولمح الصحفي المصري على الباب رئيس الوزراء وهو يستقبله. وتنصرف بعد ذلك سيارة السفير، ويعود الهدوء إلى المكان في لحظة.
كل هذا لم يستغرق أكثر من دقيقة، ومع هذا فقد كانت دقيقة غالية الثمن، وأطفأ الصحفي نور سيارته، ووقف إلى مكان قريب من المنزل يراقب.
ومضى الوقت حتى اقتربت الساعة من منتصف الليل، وكان الصحفي يتصور رئيس التحرير وهو ينتظره في مكتبه أو يبحث عنه في كل مكان. ولكنه مع هذا فضل أن ينتظر. لقد كان موقنا أن انتظاره لن يذهب سدى لإحساسه الجازم بأن هناك أزمة فعلا. وأن عناصر هذه الأزمة موجودة في هذا الاجتماع. 

فهذه المقابلة التي تتم قبل منتصف الليل، وعودة السفير البريطاني من رحلة الصيد التي بدأها صباح نفس اليوم. وقيل في الصحف أن السفير ينوي قضاء عطلة الأسبوع بطولها في أكياد. كل هذا يدل دلالة قاطعة على أن هناك أزمة بالفعل.
ولمح الصحفي سيارة السفير عائدة. ثم فتح باب منزل رئيس الوزراء وخرج السفير البريطاني وانطلق بسيارته، ومن ورائه صاحبنا الصحفي المصري، وكانت وجهة السفير دار السفارة، وكانت مكاتبها كلها مضاءة والحركة فيها على أشدها. وعاد صاحبنا إلى مكتبة ليحاول الاتصال برئيس الديوان الملكي، وهنا تدخل الخط ليساعد في استكمال عناصر النصر الصحفي إذ رد أحمد حسنين باشا بنفسه المكالمة وسمعه الصحفي يسأل "أهو قصر عابدين الذي يتكلم؟ " وسأله الصحفي "ولماذا تطلب قصر عابدين في هذه الساعة المتأخرة؟ " ولم ينتظر الصحفي الجواب بل بادر فأفرغ ما عنده من أخبار في أذن رئيس الديوان. قال له: إن السفير البريطاني اجتمع برئيس الوزراء فترة طويلة، وإن النشاط على أشده في دار السفارة، وإن هناك ما يؤكد "مولد أزمة ضخمة".
وعلى أساس معرفة الصحفي المصري بما يقرب من كل شيء، تكلم رئيس الديوان الملكي كلاما يكمل القصة الصحفية الضخمة، بعضه سمح المصدر بنشره، والبعض لم يسمح به.
وخرجت الجريدة المصرية الصباحية في اليوم التالي، وفي صفحاتها النبأ الكبير تحت عنوان "ماذا في الجو؟ السفير البريطاني يقطع إجازة نهاية الأسبوع ويعود إلى القاهرة للاجتماع برئيس الوزراء قبيل منتصف الليل".
وفي نفس اليوم الذي نشرت فيه هذه القصة الكبيرة، وقع حادث 4 فبراير وخرج السفير البريطاني من مكتبه في موكب الدبابات لينذر الملك السابق بقبول مصطفى النحاس رئيسا للوزراء1. 

ويجد الصحفيون لذة في خداع زملائهم والانتصار عليهم في معركة الحصول على الأخبار. ومن تلك الخداع ما عمد إليه أحد الصحفيين الإنجليز في إثيوبيا من تعطيل سيارته -وكان الطريق ضيقا- لكي تعترض مرور سيارات زملائه وكانوا في طريقهم إلى مكتب التلغراف بعد أن حصلوا على أخبار سياسية هامة حول مسألة معينة. وكان هذا الصحفي قد بعث ببرقية إلى صحيفته في وقت مبكر بواسطة رسول خاص. ونجحت هذه الحيلة وانفردت الصحيفة التي يعمل فيها هذا الصحفي بتلك الأخبار، ولم تتمكن الصحف الأخرى من نشرها إلا في اليوم الثاني.
وقد يكون الصحفي أشد قسوة وفظاعة فيفرغ إطار سيارة زميله من الهواء، فيعطله عن أداء مهمته، بل إنه قد يقطع سلك التليفون عمدا، أثناء إملاء الصحفي المنافس لأحد الأخبار، فيحرمه من جني ثمار جهده الطويل. وهناك صحفي ماكر كان يعرف موعد عودة المسئول إلى الوزارة فيحتفظ به سرا في نفسه، ثم يقوم بتوديع زملائه الصحفيين، وقد يخرجون معه إلى بيوتهم، ثم يعود هو -وحده- لكي يحصل على الخبر وينفرد به.
وقد سبق القول أن هذه الألاعيب والخدع ليست من الفن الصحفي في شيء، بل إن الصحافة الحديثة تعتمد على دستور آداب المهنة وأخلاقها، وتصر على أن تكون المنافسة بين الصحفيين شريفة وعادلة. 













مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید