المنشورات
سياسة الصحيفة وفنون التشويق:
والقابلية للنشر مقياس آخر للخبر الجيد. والصحفي الناجح يدرك بحسه ومرانه أن خبرا من الأخبار له أحقية وأولوية على خبر آخر. والحقيقة أن المشكلة التي تواجه صحافة اليوم ليست في ندرة الأخبار أو قلة الموضوعات، كما كان الأمر قديما. وإنما مشكلة هي في الانتفاء والاختيار من الأعداد الهائلة من الأخبار والمعلومات والصور التي تأتي إلى الصحيفة من أماكن شتى. على أن القابلية للنشر ترتبط بقوانين المطبوعات، وقوانين النشر من سب وقذف وغيرها، كما يتصل باهتمام الرأي العام في مرحلة معينة، فضلا عن الذوق العام الذي قد يرفض موضوعا من الموضوعات حتى ولو كان هاما وتتوفر فيه كافة مقاييس الخبر الناجح.
ويجب أن يتفق الخبر مع السياسة العامة لتحرير الصحيفة سواء من حيث الموضوع أو اللغة أو طريقة العرض. وعلى هذا الأساس قد يكون خبر ما عن جريمة من الجرائم والبشعة أو الأخلاقية صالحا لصحيفة معينة ولكنه لا يصلح لغيرها. ومن المعروف أن هناك صحفا رفيعة المستوى وأخرى متوسطة، كما أن هناك صحفا شعبية تتحدث إلى الجماهير العريضة. ومن الصحف ما تعتمد على الإثارة، ومنها ما ترفض هذا المبدأ رفضا تاما. وقد تكون الصحيفة شيوعية أو يسارية أو يمينية، فتعتمد في اختيار أخبارها على لونها السياسي. فليس غريبا أن تكون أخبار الشيوعية وأحزابها في العالم أهم الموضوعات في الصحافة الشيوعية، في حين أن الموضوعات الدينية تظفر باهتمام الصحف الدينية.
وسياسة الصحيفة هي التي تستطيع أن تتحكم في اختيار الخبر ومقوماته فتقدم واحدا على غيره أو تهمله إهمالا تاما. وقد رأينا أن الصحافة الشيوعية تقلل من نشر أخبار أمريكا بل إنها ترفض نشر انتصاراتها العلمية في عالم الفضاء.
وتذهب بعض الصحف إلى أن عناصر التشويق والإثارة والطرافة والروعة من أهم سمات الخبر الجيد. وهناك تعريف للنبأ يقول إنه ما يخرج عن المألوف.
فيصبح نابيا أو بارزا. وفي ذلك يقول الصحفي المشهور نورثكليف: "في شارع تسكنه مائة أسرة وأسرة لا يلتفت الناس إلى مائة أسرة تعيش عيشة مألوفة هناك بينما يلتفتون إلى أسرة واحدة يكون لها حالة شاذة كحالة طلاق أو جريمة أو نحو ذلك.
ويلاحظ أن عنصر التشويق ينطوي على الابتعاد عن الموضوعات الجافة المجردة، وقد ترتد الصحيفة إلى البدائية من أجل التشويق فتنشر أخبار الجن والعفاريت، وتتحدث عن شيخ مر عليه القطار ولم يمت، وعن تحضير الأرواح بطريقة شعبية في المنزل، وعن عالم الغيب بأسلوب ساذج بسيط. وشعار هذا النوع من الصحافة "قدم لقرائك ما يحبونه فقط، وما يدر عليك الربح الوفير".
غير أن جوهر الفن الصحفي يكمن حقيقة في تقديم الخبر الجاد، والموضوع المفيد، والمعلومات الدقيقة، بأسلوب شيق ممتع مفهوم، مثير للفكر، وليس مثيرا للغرائز الدنيا، وذلك يتطلب -بطبيعة الحال- تنوع الموضوعات وشمولها حتى تجد كل فئة من الفئات القارئة بغيتها. وقد قلنا إن فن مسرحة الأحداث والمعلومات يقربها من الأفهام فأسماء الزعماء، والبلاد، والقوانين والأنظمة والمشكلات السياسية والاجتماعية، يمكن عرضها من خلال الأسلوب المشوق.
ويقدم لنا الأستاذ جلال الدين الحمامصي1 مجموعة من المعادلات الطريفة التي تبين عناصر الغرابة والإثارة في الخبر فيقول: "رجل غربي تزوج من غير أن يطلق زوجته السابقة ثم يستمر بعد ذلك في عملية الزواج من واحدة بعد الأخرى حتى يصبح عدد زوجاته "أربعا"، ثم ينكشف أمره وتقف زوجاته الأربع أمام المحكمة شاكيات خروجه على الدين والقانون. مثل هذا الخبر يتطور في صحافة الغرب ليصبح قصة يتحدث عنها الناس جمعيا، ويقاد صاحبها إلى المحاكمة وتتوسع الصحف في النشر عنها، بينما مثل هذا الخبر في أي بلد يدين أهله بالدين الإسلامي لا قيمة له لأن القانون والدين يبيحان للزوج أن يتزوج أربعا! ولكن إذا حدث في بلد إسلامي وجود مثل هذا الرجل المزواج وزاد عدد زوجاته عن العدد الذي يسمح به الشرع فأصبح العدد خمسا أو أكثر هنا يمكن أن يتطور الخبر ليصبح قصة صحفية تهم القراء!
ومعادلة أخرى: نبأ عن صراف + زوجة + 7 أولاد= صفرا.
بينما أن نبأ عن صراف بنك - 10آلاف جنية من الخزينة= خبرا.
أو نبأ عن صراف بنك + زوجة + عشيقة - 30 آلاف جنية= خبرا
أكثر أهمية.
ومعادلة ثالثة: نبأ عن رجل عادي عمره 80 سنة + حياة عادية= صفرا.
ونبأ عن رجل عادي عمره 80 سنة + رحلة مغامرة= خبرا.
رجل عادي 80 سنة + زوجة شابة 18 سنة= خبرا.
رجل عادي 80 سنة + زوجة شابة 18 سنة + 3 توائم= خبرا أكثر أهمية.
ومن المعروف أن القبض على سكير في الشارع ليس خبرا. ولكنه إذا كان هذا السكير رئيس جميعة منع المسكرات صارا خبرا. وقصة القروي الذي باع ترام العباسية لمصري من أقاصي الصعيد قصة خبرية طريفة. ووجه الغرابة فيه مرجعه إلى ذكاء القروي، وغباء القادم من أقاصي الصعيد. وطبيعي أن للقصة ذيولا كأن يركب الصعيدي الترام ويحاول الحصول على الإيراد من الكمساري. ومثل هذا النوع من القصص الطريفة لا يمكن أن يهمل بمجرد اختفاء العناصر الأخبارية الأخرى، بل يكفي أن يكون "غريبا" لكي يكون "خبرا" بل إن مثل هذا الخبر قد يعيش في أذهان جمهور القراء أكثر مما يعيش خبر استقالة موظف كبير بسبب خلافه مع بعض زملائه في العمل! 1.
ويلاحظ أن هناك محاور عامة تدور حولها الأخبار الطريفة وأهمها: الجنس وأخبار الغراميات وقضايا الزواج والطلاق وقد تتخصص صحف بعينها في هذا النوع مثل صحيفة نيوز أوف ذي ورلد1 الإنجليزية التي يصل توزيعها إلى خمسة ملايين نسخة يوميا، وكذلك أخبار المال مثل الكسب المفاجئ لأوراق اليانصيب والسرقات والثراء المفاجيء والخسارة الفادحة. وهناك أيضا الجمال ومسابقاته وأخبار الفنانات وصورهن. وتلعب أخبار الحيوان دورا أساسيا في الصحافة الأجنبية وقد تكون صورة الغلاف لقط أو كلب. وكذلك يكون الأطفال موضوعا إنسانيا للأخبار، وهناك صحف مخصصة لهم أو عنهم. ولا شك أن الصراع موضوع يجعل الأخبار نابضة القوة والحياة، سواء أكان الصراع حربا أو مباراة أو مسابقة أو نقاشا. وقد تدور الأخبار حول الشيوخ والمسنين كما تدور حول الأطفال فتبدو طريفة كل الطرافة.
ومسرحية الحياة كثيرا ما تظهر أيضا في شكل رواية كوميدية مضحكة، وإذ ذاك تكون الحوادث الطريفة التي تتألف منها القصة المضحكة بمثابة التوابل على مائدة الصحيفة. ومن الأمثلة على ذلك: حكاية الغزال الهارب من حديقة الحيوان، وحكاية الجمل الذي فر من صاحبه حتى وصل إلى باب قصر عابدين، وحكاية الثور الذي وصل إلى المجمع اللغوي. ولعل هذه الأمثلة توضح عنصر الغرابة في الأخبار: قصة الطفل الذي يولد في طائرة، وصياح الديك الذي تسبب في موت أسرة كاملة، وخبر الرجل الميت الذي نهض من نعشه، وحكاية الرجل الذي باع الأراضي في القمر، وحكاية الصعيدي الذي اشترى الترام في مصر، وقصة الشحاذ الذي عثر فجأة على عقد من الماس.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)