المنشورات
الماجريات البرلمانية:
كانت صحيفة الوقائع اليومية التي أصدرها يوليوس قيصر سنة 59 قبل الميلاد أول صحيفة خطية يصدرها الرومان، وتحتوي إلى جانب الأخبار على تسجيل نشاط مجلس الشيوخ وعرض أعمال أعضائه وأقوالهم على الجمهور. وقد أراد يوليوس قيصر بهذا العمل أن يسلط الأضواء على تصرفات أعضاء المجلس حتى يسلكوا سبيلا يليق بهم ويتناسب مع النشر والإذاعة على الناس، وبهذه الطريقة يحرز المحسن ثناءه، ويلقى المسيء جزاءه.
وكانت أول صحيفة إنجليزية تنشر الأخبار الداخلية ومحاضر الجلسات البرلمانية صحيفة صدرت في نوفمبر سنة 1641 باسم "ملخص الإجراءات في البرلمان الحاضر"1. وكان يصدرها توماس2 في ثمان صفحات. وفي سنة 1642 تطور اسم الدورية فأصبح "اليومية الكاملة لإجراءات البرلمان"3، وكان يحررها صموئيل بيك4، وقد نجحت هذه الدورية الأسبوعية رغم اسمها يومية لأن كلمة يومية معناها هنا تفاصيل إجراءات البرلمان نجحت في إلهاب ميول الجماهير القارئة لمتابعة البرلمان في وقت كان فيه مجلس العموم البريطاني قوة مرهوبة الجانب تحارب الملك وتنتصر عليه وعلى أعوانه. على أن أهم تجديد ابتكرته "اليومية الكاملة" هو نشر عدة رسوم مختلفة تمثل أعضاء مجلس العموم أثناء انعقاد الجلسات، وكانت هذه الخطوة الجريئة وثبة رائعة في الشجاعة السياسية من جهة وفي الفن الصحفي من جهة أخرى. ولا شك أن انتشار الصحافة البرلمانية في تلك الحقبة كان يقصد منه تعبئة الجماهير ضد الملكية، وانتهى الأمر بأن قدمت "اليومية الكاملة" تقريرا صحفيا عن إعدام الملك شارل الأول سنة 1649، بفصل رقبته عن جسده بالبلطة التي أهوى بها الجلاد، والملك راكع فوق صخرة الإعدام.
ولم يكد ينتصر كرومويل في ثورته ضد الملك، حتى قلب ظهر المجن للصحافة، وأخذ يضيق على حريتها، وأصبح نشر المحاضر البرلمانية محظورا، وذلك حتى القرن الثامن عشر، عندما استطاع الصحفي الإنجليزي ويلكيز أن يحبط محاولة أعضاء مجلس العموم لمعاقبة الصحفيين واضطهاد الطابعين. وقد وصل هذا الصحفي إلى منصب "عمدة مدينة لندن" وأعلن أن القبض على رجال الصحافة يعد خرقا لحقوق الأفراد، والامتيازات المرعية التي يتمتع بها كل مواطن. وقد حذا أعضاء مجلس مدينة لندن حذو زميلهم ويلكيز عندما عرضت عليهم قضايا الصحفيين، فتقرر حبس اثنين منهما في قلعة لندن، حيث أحاطهما الشعب بالتكريم والتأييد والهتاف، فأقيمت الحفلات وأعدت الولائم، وقدمت الهدايا، فكان ذلك انتصارا للصحافة وتمجيدا لها وتأكيدا لحريتها في نشر الماجريات البرلمانية ونقد الحكومة.
والحق أن ويلكيز كان يؤمن إيمانا راسخا بحرية الصحافة. فهو يكتب في صحيفة "ذي نورث بريتون"1 أن حرية الصحافة حق طبيعي لكل مواطن؛ لأنها أقوى دعامة لحماية الحريات في البلاد، وكم أفزعت الصحافة الوزراء المفسدين، وكشفت خططهم الخطيرة، ومؤامراتهم الدنيئة، وتخاذلهم وخداعهم! إن الصحافة تستطيع أن تكشف النقاب عن هذه الأشياء جميعا، وتعرض أعمال الوزراء على الرأي العام، لكي يقول كلمته فيها، فتثير كراهية الشعب ضد الفساد والبطش والضعف والطغيان.
وقد كان الصراع بين الصحافة والحكومات من أجل نشر محاضر جلسات البرلمان والمحاكم والهيئات السياسية جزءا لا يتجزأ من ملحمة الحرية الصحفية في مصر. فقد كانت الحكومات ترى في نشر هذه المحاضر تحقيرا لها وافتئاتا على حقوقها. وقد كان الدكتور محمود عزمي مندوبا برلمانيا لجريدة السياسة. وكان الدكتور عزمي يرسم بقلمه صورا ساخرة للنواب المصريين، ويضع يده على كثير من مواطن الضعف فيهم، ولعل ذلك يذكرنا بما كان يفعله الصحفيون الإنجليز من استخدام الرمز الجريء المكشوف لنقد أعضاء مجلس العموم البريطاني، وخاصة الأديب المشهور الدكتور جرنصون. ويبدو أن الدكتور عزمي قد أثار سخط النواب عليه فقرر أعضاؤه إذ ذاك أن يطردوه من المجلس، وأن يحرموه من الجلوس في شرفة الصحافة، ويحرموا جريدة السياسة من نشر محاضر جلسات البرلمان. ووقف عزمي وحده في شرفة الصحافة يواجه ضجة المجلس، وفي اليوم التالي ظهرت جريدة السياسة وفيها مقال عنيف بقلم الدكتور محمود عزمي ضد مجلس النواب المصري. وفيها كذلك وصف دقيق لما ورد في الجلسة التي حرم منها. واستمرت جريدة السياسة تنشر وصفا لهذه الجلسات التي يعقدها البرلمان حتى هاج المجلس مرة أخرى، وطالب بإجراء تحقيق مع مندوبي الصحف، وموظفي المضبطة، لمعرفة الموظف الذي يمد جريدية السياسة بأخبار هذه الجلسات.
فن صياغة الماجريات:
ويمكن القول بوجه عام أن تحرير الماجريات البرلمانية والقضائية والدبلوماسية والدولية، يشبه إلى حد كبير طريقة كتابة الخبر ذي الأقوال المقتبسة. فالمحرر يضع بعد العنوان مقدمة يلخص فيها أبرز ما جرى في تلك الجلسات، ويثبت أهم النتائج، ثم إنه إذا أتى إلى صلب الخبر أو جسمه أخذ يوجز ثم يفصل من الأقوال ما يفسر الإيجاز. وهناك طريقة تعتمد على الإيجاز والتركيز لإعطاء القارئ فكرة صحيحة عن الحوادث التي وقعت والقرارات التي اتخذت دون ما دخول في التفاصيل الدقيقة. وهنا يكون على الصحفي أن يقوم الحقائق والأحداث، ويجهد نفسه للتفرقه بين الغث والسمين، ولا يكترث للحوادث الصغيرة أو الأحاديث العابرة التي لا تؤثر على المجرى العام لسير الجلسة.
وهناك طريقة أخرى تقوم على الإسهاب والتفصيل، فيحرص الصحفي على تسجيل كل شيء، حتى وصف الملابس وحركات الجسم، وطريقة الكلام، والهدوء أو العصبية. ولا شك أن الصحفي العظيم يستطيع أن ينقل من خلال هذه التفاصيل روح الجلسة، فيفهم القراء من بين السطور، ما لا يستطيع أن يفصح عنه من خلال السطور نفسها.
غير أن ظروف الصحافة الحديثة، وغلاء أسعار الورق، وكثرة الإعلانات، قد أدت إلى ابتكار طريقة وسط بين الطريقتين، بحيث يوجز الصحفي في البداية، ويعطي صورة للجلسة وما حدث فيها بوجه عام، وبعد ذلك يورد بعض العبارات وأقوال الأعضاء أو الشهود بنصها، مع حذف التفاصيل التي لا ضرورة لها. وهذه الطريقة لها خطرها؛ لأنها تتطلب صحفيا أمينا يتحمل المسئولية بضمير حي، ولا يستغل الحذف للتشويه أو الانحياز لفريق دون الآخر، فالموضوعية في نشر الماجريات القضائية والبرلمانية والسياسية والدولية من أهم معالم الصحافة الجيدة.
وقد أصبح من المقرر الآن أن الجمهور من حقه أن يعرف كل شيء مما يجري في المحاكم أو البرلمان أو المؤتمرات السياسية أو المنظمات الدولية. غير أن من واجب الصحيفة أن تراعي منتهى الدقة في نشر أخبار المحاكم ومحاضر جلساتها، ولا بأس من تحليل العوامل النفسية عن طريق الحركات والإشارات، وكذلك تفسير المواد القانونية للجمهور العام، ولكن من الخطأ الانحياز إلى جانب أو آخر، أو إلحاق الضرر بالمتهمين.
وقد أصبح نشر الماجريات السياسية والدولية عن المؤتمر والمفاوضات والاتفاقيات من أهم الموضوعات الصحفية. بل إن ظروف مصر الحقبة الأخيرة وعرض قضية الشرق الأوسط على الأمم المتحدة في الجمعية العامة أو مجلس الأمن، وكذلك مناقشتها في الاجتماعات الرباعية لممثلي الدول الكبرى، قد جعل من متابعة هذه الأخبار ضرورة يحس بها القراء، ويتوقون إليها.
غير أن متابعة الماجريات السياسية والدولية تتطلب صحفيين أذكياء مثقفين، على درجة عالية من الوعي والمسئولية، وإتقان اللغات الأجنبية. هذا فضلا عن أن تدخل الصحافة في هذه الأمور -بعد أن كان ذلك محظورا من قبل- في عصور الدبلوماسية الهادئة، والمفاوضات السرية، قد ألقى على عاتق الصحفيين مهمة الاتزان، والابتعاد عن الإثارة، والموضوعية في نقل الأحداث والخطب والأقوال؛ لأن هذه القضايا تتصل بالحرب والسلام.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)