المنشورات

فن التحقيق الصحفي

يبدأ فن التحقيق الصحفي -عادة- من النقطة التي ينتهي عندها الخبر الصحفي. فقد رأينا أن الخبر الصحفي يجب أن يحتوي على إجابات لخمسة أسئلة تقليدية، أما التحقيق الصحفي فينهض للإجابة عن سؤال أساسي هو: لماذا؟ وذلك ليس بالسؤال الهين، بل ربما كانت علوم الفلسفة كلها منذ نشأة التفكير المنهجي تحاول الإجابة عن هذا السؤال الجذري. فليس غريبا أن يسمى التحقيق الصحفي في بعض الدول العربية استطلاعا، ويفهم في كثير من الدول الأجنبية على أنه دراسة، ذلك أن روح التحقيق الصحفي تتسم بالدراسة والاستطلاع والبحث وتقصي أسباب الحقائق ومعرفة الزوايا المتعددة للحقيقة الواقعة. وكثيرا ما يتصل التحقيق الصحفي بالأحداث الجارية، ويرتبط بالأفكار الحية في حياتنا، ولذلك فإنه يتسم بالواقعية والحالية، حتى ولو كان الموضوع تاريخيا، بمعنى أن الزاوية الجديدة، أو النظرة المكتشفة حديثا، أو التقييم الجديد للحقائق التاريخية والشخصيات تعطي معاني وأبعادا غير معروفة من قبل. فالتحقيق الصحفي ينطوي على المعلومات والبيانات والتعليقات والمعاني والأبعاد الكامنة وراء الأخبار والمفاهيم السائدة، فهو عمل ابتداعي خلاق.
وقد يقال إن التحقيق الصحفي يتناول أحيانا موضوعات تاريخية كعصر إسماعيل أو الثورة العرابية أو حتى التاريخ الفرعوني القديم، وهذا صحيح، غير أن الزاوية الجديدة، والرؤية المبتكرة، والوثائق المكتشفة حديثا، هي التي تجعل الموضوع التاريخي جديرا بالمعالجة الصحفية. فهنا لا بد وأن تتوفر عناصر الجدة والطرافة؛ لأن التحقيق الصحفي لا يهدف إلى مجرد التسجيل، بل يهدف كذلك إلى الإعلام والتفسير والتوجيه والترفيه والتسويق والتنشئة الاجتماعية.
وقد يكون التحقيق إعلاميا أو تفسيريا أو توجيهيا أو ترفيهيا أو تعليميا أو إعلانيا، غير أنه في معظم الأحيان يحقق أكثر من هدف واحد من تلك الأهداف. والمهم أن يكون التحقيق موضوعيا سلسا في أسلوبه، مشوقا في معلوماته، جذابا في معالجته، وقبل كل شيء يتسم بالوضوح والجلاء والتحقيق الصحفي يرتبط ارتباطا وثيقا بفن المجلة، "وهذه مشتقة من مادة جلا أو جلاء أو ظهر ووضح، ومنها جلية الأمر أي ما ظهر حقيقة أي الخبر اليقين. والمجلة هنا بمعنى أنها استجلاء حقيقة من العالم"1. ولا نبالغ إذا قلنا إن خير تعريف للتحقيق الصحفي نفسه أنه استجلاء حقيقة من العالم المحيط بنا، ومعالجتها بأسلوب واقعي مشوق جذاب.
ويقسم الإنجليز الفن الصحفي إلى قسمين رئيسين: أما القسم الأول فهو الأخبار، أما القسم الثاني فهو المعالم، وهذا القسم الثاني يهتم بتوضيح معالم الأنباء والأفكار، فالخبر يعطي الحقيقة مجردة، أما المعالم فتفسر ما وراء الخبر. فرواية خبر من الأخبار كحادث قتل في وقت معين ومكان محدد مع ذكر اسم القاتل والقتيل وغير ذلك من التفاصيل يدخل في باب الخبر، ولكن القارئ يحب -عادة- أن يعلم شيئا عن حياة القتيل وسيرة القاتل، ويورد أن يعرف شيئا عن دوافع الجريمة، وربما دوافع الجرائم بصفة عامة، وهنا تأتي وظيفة المعالم في التفسير والشرح والتعليق والإيضاح.
إن فن التحقيق الصحفي هو فن التنوير والتثقيف بأسلوب جديد يصل إلى كافة الأفهام. وهو فن يختلف عن فن الكتاب العادي؛ لأنه ينطوي على تحرير صحفي, وفن تصويري، وتجسيد للمعاني، وتبسيط للحقائق، مع استخدام الصور الفوتوغرافية، والرسوم الإيضاحية، والخرائط التفسيرية، والنماذج التي تيسر الفهم لكافة المستويات الثقافية. ولذلك فإننا قد نتحدث عن "إنتاج" التحقيق الصحفي، ولا نكتفي بمجرد كتابته أو تحريره، علما بأن التحقيق يتضمن الحوار والمناقشة والحديث الصحفي والاستقصاء والبحث والدراسة، بشرط أن يتم كل ذلك في إطار الواقع العملي، ويعبر عنه باصطلاحات مفهومة للجميع، مع الابتعاد عن المصطلحات العلمية والفنية المجردة.
وما أقرب فن التحقيق الصحفي من فن الفيلم التسجيلي السينمائي! فإذا كانت جريدة الأخبار الناطقة في السينما تناظر الجانب الأخباري من الصحافة، كما أن الأفلام الدرامية تناظر الجوانب القصصية والترفيهية من الصحافة، فلا شك أن الفيلم التسجيلي هو ما يناظر فن التحقيق الصحفي. وكلاهما -الفيلم التسجيلي والتحقيق الصحفي- لا بد وأن تتوفر فيه عناصر الواقعية والصدق والتغطية الكاملة من زوايا متعددة، فضلا عن التشويق والتحليل والتبسيط وإثارة انتباه القارئ أو المشاهد بما وراء الأخبار من خلفيات وشخصيات -على أن يتم ذلك كله بطريقة فنية خلاقة، وهذا هو التناول الإبداعي للواقع -على حد قول جريرسون1.
وإذا كان ثمة فن من الفنون الصحفية يستطيع أن يقف صامدا في مواجهة الإذاعة والسينما والتليفزيون، فهو فن التحقيق الصحفي، إذا أحسن إنتاجه، وأتقنت لغته وعباراته. وعالم اليوم يفكر بأسلوب بصري جديد، وهناك عدد كبير من المتعلمين الجدد الذين يريدون أن يدخلوا عالم الثقافة من خلال التعبير المصور، والأسلوب المبسط، والألوان الزاهية المعبرة، وهكذا يدخل فن التحقيق الصحفي لكي يعلم ويثقف ويوجه ويرشد ويفسر ويمتع. وفي عصرنا الذي يسوده التخصص الضيق، يستطيع هذا الفن أن يربأ الصدع، ويملأ الثغرات الفاصلة بين شتى التخصصات في المجتمع. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید