المنشورات

تطور فن التحقيق الصحفي:

فليس غريبا أن يرتبط ازدهار التحقيق الصحفي بظهور الصورة الصحفية، والفنون التسجيلية الأخرى كالرسوم والخرائط وفنون صناعة الكليشيهات "الأنماط". لقد كانت صحيفة العشرية المصرية1 التي أصدرتها الحملة الفرنسية على مصر تحتوي على تحقيقات صحفية منذ صدورها في أكتوبر سنة 1798، كما كانت بريد مصر2 الصادرة في أغسطس سنة 1798 تحتوي على وصف لساحات القتال، وللحفلات التي حضرها نابليون. كما كانت تعنى بنشر تفاصيل زيارات بونابرت العلماء المصريين ورجال دينهم كزيارته للسيد السادات في مولد السيدة زينب، وهذا ما يسمى الآن بالتحقيق الصحفي الموسمي أو تحقيق المناسبات، بل إن الصحيفة أسهبت في وصف المأكل والمشرب في شهر رمضان، وأوردت ما دار من جدل بين بونابرت والمشايخ حول القرآن الكريم، وقد استغرق ذلك صفحتين كاملتين.
على أن التطور الملحوظ في الأسلوب والموضوع يبدأ من العدد الخامس من صحيفة لوكورييه "البريد المصري"2 فقد أذاعت على قرائها أنها ستنشر ما يفيد قراءها الأوروبيين ويطلعهم على عادات المصريين وتقاليدهم، وأكدت أنه لن ينشر شيء إلا على أساس تصوير لحالة من الحالات أو بعد دراسة مستوفاة. وهذا في نظرنا هو جوهر التحقيق الصحفي الذي ينقل بأمانة وموضوعية صورة من الصور، أو أن يقوم بدراسة مستوفاة لمشكلة من المشكلات. وفضلا عن ذلك قامت الصحيفة بنشر ما يسمى الآن بالتحقيقات الصحفية الطريفة ذات الموضوع الإنساني مثل عادات الزواج والطلاق، والأخذ بالثأر بين الأسر والجماعات.
وقد كان رفاعة الطهطاوي -أول محرر للوقائع- قد عرف فن التحقيق الصحفي في فرنسا، فأخذ يبذر بذوره الأولى في تلك الصحيفة الرسمية، كما استطاع السوريون واللبنانيون القادمون من بلاد الشام أن يجلبوا معهم هذا الفن الذي تعلموه من البعثات التبشيرية وأساتذة الجامعة الأمريكية، وخاصة ما يتصل بالعلوم والفنون. ومن ذلك مثلا تاريخ أهرام الجيزة الذي نشر في جريدة الأهرام بعددها الأول الصادر في 5 أغسطس، ومن ذلك أيضا تحقيقات بشارة تقلا عن رحلته في الأستانة.
غير أن تطور الصحافة المصورة بمجلاتها الجديدة مثل الهلال واللطائف وسركيس والحكمة والثريا والأرغول والكشاف قد استطاعت أن تقفز بفن التحقيق الصحفي عدة خطوات إلى الأمام. وقد كانت التحقيقات تدول حول الأخبار الجديدة مثل هزيمة أتباع المهدي وفرار التعايشي إلى كردفان. وتحتوي التحقيقات على عناصر التشويق المختلفة بأسلوب سهل مألوف للقارئ العادي.
ومن الطريف أن مجلة اللطائف الصادر سنة 1886 قد تخصصت كما يتضح من اسمها في نشر التحقيقات الطريفة، "لاحتوائها على كل لطيفة" على حد قول صاحبها شاهين مكاريوس. ولكن ليس معنى هذا أنها كانت مجرد تحقيقات خفيفة هشة، بل لقد كانت معظمها، في حقيقة الأمر، مبنية على دراسة جادة، ومدعمة بالصور. ويبدو أن كاتب التحقيق، كان يدرك منذ البداية أن فنه فن موضوعي وليس فنا ذاتيا، فلا ندهش من أنه ما كان يوقع باسمه على التحقيق إلا نادرا.
ثم جاءت القفزة الثانية لفن التحقيق الصحفي بازدهار فن طباعة الرتوجرافور أو فن الطباعة الغائرة الملونة. فكانت مجلة اللطائف المصورة الصادرة سنة 1915، ومجلة المصور الصادرة سنة 1924، والبلاغ الأسبوعي المصورة الصادرة سنة 1926، والجديد الصادرة سنة 1928، والدنيا المصورة ومصر الحديثة المصورة الصادرتان سنة 1928 أيضا، طلائع رائعة لرقي فن التحقيق الصحفي.
وتطالعنا مجلة المصور في عددها الأول الصادر في 4 أكتوبر سنة 1924 بافتتاحية تؤكد فيها أنها تطبع صور الأشخاص والحوادث والمشاهد بطريقة متقنة للغاية وكأنها صور فوتوغرافية، وهي إشارة إلى فن طباعة الروتوجرافور، فضلا عن الاهتمام بالجوانب المشوقة والإنسانية من الفكاهات والنبذ المفيدة -على حد قول المجلة. من ذلك مثلا موضوعات عن ابن فلاح يعتبر أغنى رجل في العالم، وتساؤل حول من الأبرع في النشل الرجال أم النساء؟، وغرائب الفرار من السجن.
وقد كان المصور المشهور رياض شحاتة من الرعيل الأول الذين أسهموا في تصوير بعض التحقيقات عن ارتياد الصحراء، وقد كانت الموضوعات المنشورة تتخذ عنوانا لها كلمة "جولة" أو "رحلة" أو "بحث" أو "دراسة" كما شنت مجلة المصور عدة حملات على شكل تحقيقات مصورة1، دارت حول "مشروعات بمئات الألوف من الجنيهات تفشل أو لا تنجح فمن المسئول"، وتناولت فيها موضوع سكة حديد السويس، وموضوع الخطوط التليفونية الأرضية بين مصر والإسكندرية، وقد تكلف هذه المشروع 240.000 جنيه.
ويلاحظ أن الصحافة المصرية في الثلث الأول من القرن العشرين كانت تشير إلى التحقيق بألفاظ متعددة منها: البحث والدراسة والجولة والرسالة والمشاهدات والنقدات والملاحظات، وهي جميعا تدل على حس صحفي سليم لفهم طبيعة التحقيق الصحفي ووظيفته. وفي 4 أغسطس سنة 1939، نجد المصور يستخدم لأول مرة عبارة التحقيق الصحفي2، بعنوان "مملكة الريف ودولة الأقاليم". ومن الطريف أنه تحقيق جماعي اشترك فيه عدد من مندوبي المصور، بالإضافة إلى أبحاث "البارزين من حكام المديريات وأبنائها" -على حد قول المصور. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید