المنشورات

فن صياغة التحقيق الصحفي:

أما صلب التحقيق الصحفي فيتخذ خمسة قوالب رئيسية1 هي: قالب العرض، وقالب القصة وقالب الوصف وقالب الاعتراف وقالب الحديث. ولعل قالب العرض هو أبسطها جميعا بشرط أن يكون جذابا، ويسوق فيه الكاتب طائفة من الآراء والمعلومات ثم يستخلص في النهاية نتائج دراسته بشرط أن يكون محايدا في عرض آراء المؤيدين والمعارضين. وقد تلعب عناصر الصراع بين الآراء دورا أساسيا في جذب الانتباه، وتسلسل الكتابة والموضوعات الفرعية. على أنه ينبغي أن يستخلص الصحفي نتائجه من المعلومات والآراء التي عرضها، ولا يقحم رأيه الخاص.
وربما كان القالب القصصي هو الذي يميز فن التحقيق الصحفي عن فن الخبر بصورة واضحة. وقد رأينا أن صياغة الخبر تجعل المعلومات الهامة في المقدمة ثم تأتي المعلومات الأخرى مرتبة ترتيبا وفقا لأهميتها. فوظيفة المقدمة الخبرية أن تعطي القارئ أهم الحقائق بسرعة واختصار. أما القالب القصصي فإنه على العكس من ذلك، يبدأ فيه الكاتب بإثارة الاهتمام وجذب الانتباه ثم يتسلسل مع اهتمام القارئ صعودا إلى الذروة من خلال الحوار والحديث ورواية الأحداث. ولذلك فإن قالب السرد القصصي يمثل بهرم معتدل وليس مقلوبا كقالب الخبر. وعادة يبدأ الكاتب بمقدمة مثيرة للدهشة أو العجب، يدلف منها إلى بداية القصة، ويتسلسل منها حتى النهاية أو الذروة. غير أننا لا ينبغي أن نخلط بين القصة الخيالية والقصة الواقعية، فالأولى تعتمد على الإبداع الفني والأدبي، في حين أن الثانية ترتكز على أسس الفن الصحفي الواقعي.
أما قالب الوصف فهو أكثر قوالب التحقيق الصحفي شيوعا وأقربها إلى الفن الصحفي، ويقدم الكاتب موضوعه عن طريق الوصف المباشر، مع إبراز الملامح الرئيسية أو المكان موضوع التحقيق الصحفي. ويعتبر وصف الرحلات والبلاد المختلفة من أشهر الموضوعات الصحفية التي يصلح لها هذا القالب الفني. ونؤكد مرة أخرى أن أدب الرحلات الخيالي لا يدخل ضمن فن التحقيق الصحفي الوصفي. وأنجح التحقيقات ما يتصل بخبر جديد أو اكتشاف حديث، كما يحدث في التنقيب عن الآثار. ويحتاج الكاتب إلى إعداد الخلفية العلمية من المعلومات الضرورية لوصف المكان الذي يذهب إليه، كما ينبغي أن يكون قوي الملاحظة، يقظا، حاضر البديهة. وأهم من ذلك قدرة الكاتب على الوصف بالقلم، وبراعته في نقل ما يشاهده وكأنه يرسم لوحات حية. ويعقد الأمل على أن هذا النوع من التحقيقات يمكن أن يكون عاملا قويا في ربط أواصر الإنسانية عن طريق التفاهم بين البشر والتقريب بين عاداتهم وثقافاتهم ونظمهم السياسية والاجتماعية.
وقالب الاعتراف يقدم صورا نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني، يرسمها الصحفي بغزارة المعلومات التي يدلي بها المصدر أدبيا كان أو زعيما أو فنانا أو بطلا رياضيا. ويعتمد هذا النوع من التحقيقات على الأمانة والصدق في نقل العبارات وكذلك على التصوير النفسي، والتحليل السيكولوجي. ولا شك أن الإنسان الذي اشترك في الأحداث بنفسه يستطيع أن يروي الأحداث بطريقته الخاصة التي تثير الاهتمام وتشوق القراء. ويحقق هذا القالب الصحفي وظائف الإعلام من أخبار وتسلية وإمتاع وإرشاد بطريقة غير مباشرة.
أما قالب الحديث فهو من أهم القوالب الصحفية وأكثرها شيوعا. وهنا يكون للصحفي صفات البائع، فهو مضطر أن يذيب شخصيته في شخصية محدثة، وتلك صفة ضرورية لا يقصد بها الإقناع وحده، ولكنها ألزم ما تكون في الحقيقة لإيجاد المشاركة الوجدانية بينه وبين المتحدث. وقد كانت الصحافة في الماضي -حرصا منها على الدقة والأمانة والصدق- تنشر الأسئلة والأجوبة نشرا حرفيا دقيقا، ولكن الصحافة الحديثة عدلت عن هذه الطريقة، ووجدت فيها ما يبعث على الملل والسآمة، فاتخذت طريقا وسطا فيه تحليل للجو المحيط بالحديث، مما يضفي عليه حيوية ونضارة وبهذه الطريقة يلقي الصحفي الأضواء على شخصية محدثة. وقد يهدف الحديث إلى جمع الحقائق والمعلومات والأخبار، ولكنه قد يكون حديثا لبيان الآراء والاتجاهات، وهناك أحاديث للإمتاع والتسلية، فضلا عن الأحاديث التعليمية التي تبين كيف تصنع الأشياء أو كيف تكتسب المهارات. ويلاحظ أن يكون التحقيق الصحفي إيقاعيا في تنوعه بين التلخيص والوصف ثم إيراد نص ما يقوله المتحدث وهكذا حتى ينتهي الحديث.
غير أن على الصحفي أن يحذر من أن يصبح هو نفسه محور الحديث؛ لأن القراء يشغفون بحديث المصدر لا حديث الصحفي. وكثيرا ما يلجأ رجال السياسة والدبلوماسية المحتكون إلى الإجابات العامة المختصرة التي تنعدم فيها روحه الشخصية، فلا يظفر الصحفي من الحديث إلا بأسئلته هو. ويلاحظ أن التحقيق الصحفي ليس حديثا، وإنما هو صورة لشخصية من الشخصيات تظهر من خلال الحديث والتحليل. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید