المنشورات
خاتمة التحقيق الصحفي:
وينبغي أن يكون للتحقيق الصحفي خاتمة قوية واضحة أشبه ما تكون بالكلمات النهائية في فن المسرحية. ولا تكون النهاية مسرفة في طولها. وإلا انعدم تأثيرها، ولكنها تتسم بالتوافق بين مساحتها ومساحة التحقيق الصحفي نفسه. وتعتبر الخاتمة بمثابة النتائج التي وصل إليها الصحفي من تحقيقه، ولذلك فإنها كثيرا ما تربط بالمقدمة نفسها وتكون صدى لها. ونجد أن بعض الصحفيين يجعلون الخاتمة تعبيرا عن رأيهم الذاتي، بصرف النظر عن المقومات الأخرى والآراء المختلفة والأفكار الشائعة في التحقيق. غير أن النهاية ينبغي أن تكون منطقية مع التحقيق الصحفي، ولا تلصق به كتذييل مقحم أو مفروض عليه.
وفي رأينا أن الخاتمة تستمد خصائصها من طبيعة التحقيق الصحفي نفسه. فإذا كان التحقيق من نوع إعلامي تعرض فيه الحقائق والآراء المختلفة، فأنسب خاتمة هي تلك التي توجز مجموع الأفكار والآراء وتربطها ببعضها البعض وتستخلص منها النتائج المنطقية المترتبة على المعلومات والأحاديث والآراء. ولا ينبغي أن يفرض الصحفي أحكامه الذاتية الشخصية؛ لأن ذلك ميدانه فن آخر من الفنون الصحفية هو المقال أو العمود أو اليوميات.
ويرى بعض الصحفيين أن التحقيق الصحفي ينبغي أن يختم بنهاية سارة مثل المسرحيات والأفلام؛ لأن الخاتمة السعيدة تشيع البهجة والسعادة بين القراء، وخاصة بالنسبة للتحقيقات القصصية، والموضوعات الإنسانية. ولا شك أن مثل هذه النهاية لها تأثيرها الطيب في نفوس الجماهير، غير أن إقحام خاتمة سعيدة على كل موضوع بلا استثناء يحيل فن التحقيق الصحفي إلى ضرب من التسلية الرخيصة، ولذلك فإن الخاتمة السعيدة لا بأس بها -بشرط أن تكون هذه الخاتمة نتيجة منطقية لأحداث التحقيق وشخصياته.
وخير خاتمة للموضوعات الدراسية، وتحقيقات البحث في المشاكل العامة، تلك التي تقدم حلولا واقتراحات إيجابية فيما يتصل بالمسائل العامة المطروحة للمناقشة والدراسة. ولا شك أن الصحافة بمثل هذه التحقيقات تؤدي رسالة هامة في النقد والتوجيه، كما أنها توجه الرأي العام إلى العناية بالشئون العامة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية.
وقد رأينا أن التحقيق الصحفي قد يمثل شريحة من شرائح الحياة، أو قطاعا من قطاعات المجتمع، أو صورة من الصور النابضة بالحياة. وهنا لا مكان للتوصيات أو الاقتراحات، وإنما تأتي الخاتمة بشكل صورة مصغرة للصورة العامة، كالفنان الذي يستطيع أن يرسم اللوحة الضخمة ملخصة في خطوط بسيطة، ولكنها قوية ومعبرة. ولا شك أن ذوق الصحفي، وقدرته على التعبير الفني، والتحليل النفسي -وخاصة في التحقيقات التي تدور حول الشخصيات، تعد -بحق- من أهم مميزات الفنان الصحفي المجيد. والمهم أن تكون الخاتمة جزءا جوهريا من التحقيق وليس مجرد إضافة يمكن الاستغناء عنها.
دور التصوير في التحقيق الصحفي:
وهكذا نرى أن بناء التحقيق الصحفي يتكون من عنوان ومقدمة وصلب للموضوع ثم خاتمة أو نهاية. وليس معنى قوالب العرض والقصة والوصف والاعتراف والحديث، أن كل نوع من هذه الأنواع منفصل تماما عن غيره، بل إننا كثيرا ما نجد التحقيق الصحفي الواحد وقد تضمن زوايا مختلفة من هذه القوالب جميعا. وقد رأينا أن صياغة التحقيق الصحفي تقترب من الصياغة القصصية من حيث البداية المشوقة الجذابة، ثم الاستطراد من قمة الهرم نحو قاعدته -بعكس قوالب الهرم في الأخبار- بعبارات تؤدي إلى الذروة.
ومثال ذلك هذه الافتتاحية المشهورة في تحقيق عن فائدة التأمين على الحياة: "إن الموت هو شيء طبيعي، ومن الممكن أن يحدث لك الآن، أو بعد قراءة هذا التحقيق، كما أنه من الممكن أن يكون كاتب هذا التحقيق في عداد الأموات حتى قبل أن تصل هذه الصحيفة إلى يدك".
والمهم أن تنتقل من الافتتاحية إلى صلب الموضوع بسلاسة ولباقة تجعل القارئ يسترسل في القراءة، دون ملل. ولا بأس من استخدام الحوار تارة، وتصوير الشخصية تارة أخرى، وكذلك عرض نماذج من الآراء والاتجاهات المختلفة، مع مهارة فنية في التحرير، تجعل الكاتب محركا للأحداث دون أن يقحم نفسه عليها. حتى إذا جاءت الخاتمة كانت منطقية مع صلب التحقيق بآرائه ومعلوماته وحقائقه وصوره وشخصياته.
ومن الواضح أن فن التحقيق الصحفي يرتبط بثلاث دوائر أو حلقات متشابكة هي: سياسة الصحيفة، والصياغة الإنسانية الجذابة، واهتمام القراء. ومهما كانت الفكرة أو الموضوع، فلا بد من الارتباط بسياسة الصحيفة من جهة ودائرة اهتمام القراء من جهة أخرى1.
غير أن الصورة هي التي تعطي للتحقيق الصحفي الحديث وجهه الجديد المميز له عن سائر فنون الصحافة الأخرى حتى يقال إن كل ما هنالك من الفرق بين صحافة الأمس وصحافة اليوم يكمن في الصورة. كما يؤكد ذلك ما يذهب إليه علماء الصحافة المحدثون من أننا نعيش مرة أخرى في حقبة من الزمن هي حقبة الصورة. وقد ترك بعض علماء الأدب من أمثال مارشال ماكلوهان دراساتهم الأدبية وتوجهوا إلى الفنون الإعلامية، وهم يرون أننا نعيش أساسا في حضارة بصرية. "فلقد دخل إلى حيز الوجود أدب بصري لم يسبق له مثيل يقرأ فيه الناس الصور كما لم يفعلوا من قبل ومنذ مئات السنين تاركين بذلك للألفاظ واجب نقل الأفكار المجردة غير القابلة للانتقال في أشكال مرسومة"1 ويذهب رأي آخر إلى حد القول بأن الصحافة هي الصورة التي قد تفوق في قيمتها قوة الخبر نفسه لأنها في تكوينها وإخراجها تعبر عن الحقيقة2.
والواقع أن تطور فن المجلة يعتمد في أساسه على تطور فن التصوير ولذلك فإن فن التحقيق الصحفي قد ارتبط ارتباطا وثيقا بتطور فن المجلة وازدهار فن التصوير. ولما كان الصدق والواقعية والموضوعية أهم خصائص التحقيق الصحفي الناجح، فإن المصورين يلعبون دورا أساسيا في التعبير الأمين عن مضمون التحقيق. ويظن البعض أن الصورة مجرد إضافة أو زخرفة للتحقيق الصحفي، ولكن الاتجاه الحديث يحتم أن تكون للصورة وظيفة محددة، وإلا فإنه من المستحسن الاستغناء عنها وإهمالها.
وفي بعض الأحوال التي يتعذر فيها التصوير، تقوم الرسوم الكاريكاتورية والتصويرية بدور الصورة الفوتوغرافية، وهذا هو دور الرسم التسجيلي في المحاكم التي تمنع التصوير، أو في الظروف التاريخية التي يتعذر فيها التصوير الفوتوغرافي، كلحظة سفر الملك فاروق إلى الخارج بعد خلعه من الحكم. هذا فضلا عن أن الرسوم تستطيع أن تفسر وتشرح وتبسط بطريقة أكثر مرونة من الصورة الفوتوغرافية.
التحقيق الصحفي وفن المجلة:
وقد أصبح فن التحقيق الصحفي المصور سمة مميزة للصحافة الحديثة، كما تخصصت المجلات العالمية الكبرى لهذا النوع من الفن الصحفي مثل لايف ولوك وتايم ونيوزويك وشتيرن وجوردي فرانس وباري ماتش وورلد سكالا1، وقد تخصصت هذه المجلات في دراسة فنون التأثير في الجماهير من خلال التحقيق الصحفي المصور، فكانت هذه المجلات حقولا للتجريب الحديث، حتى وصلت إلى قمة الفن الصحفي، وتوزع هذه المجلات ملايين النسخ في شتى بقاع العالم.
وقد صدر بين سنتي 1936 وسنة 1950 نحو 251 مجلة عالمية مصورة، وهذه هي نفس الفترة التي بلغت فيها المجلة المصرية أيضا تفوقا عظيما، كما سبق القول، وقد ارتفع توزيع المجلات المصورة باطراد وخاصة في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وصدور عدد من المجلات الشعبية المصورة في مدينة هامبورج وغيرها. ويكاد لا يصدر عدد واحد من هذه المجلات في أوروبا وأمريكا دون الاستعانة بالتحقيق الصحفي المصور. بل إن بعض هذه المجلات تكاد تتخصص في هذا الفن دون سواه.
وقد ارتفع توزيع هذه المجلات العالمية من 83.235.000 نسخة سنة 1939 إلى 150.628.000 نسخة سنة 1950 "2"، بفضل التحقيق الصحفي. وتعتبر مجلات نويه اليستوريرتيه ودي تزايت ودير شبيجل وشتيرن3 من أهم المجلات الألمانية المصورة التي خطت بفن التحقيق الصحفي خطوات قافزة إلى الإمام.
وقد بدأ تأثير هذه المجلات العالمية على صحفنا ومجلاتنا في الظهور منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت بعض مجلاتنا تنقل التحقيقات الصحفية بصورها وتترجم ألفاظها، ثم بدأت بعض المجلات المصرية والعربية الأخرى رسم سياسة ابتكارية للتحقيقات الصحفية، فتقدم هذا الفن تقدما عظيما بعد ظهور الصورة الملونة الجيدة. وقد أصبح الصحفي الفذ -ابتداء من العقد الخامس من هذا القرن- هو المخبر وكاتب التحقيق بعد أن كان كاتب المقال قبل سنة 1919. فإذا قلنا إن صحافة هذا العصر هي صحافة التحقيق فلسنا مبالغين في شيء.
غير أن هذه الصحافة الحديثة تواجه اليوم منافسة خطيرة من وسائل الإعلام المصورة، وخاصة التليفزيون والسينما. فبعد أن كانت الإذاعة تتميز بالسرعة والحالية في إذاعة الأخبار، وجدنا أن الصحافة المصورة كانت تكمل تلك الأخبار السريعة التي تأتي في النشرة الإخبارية. وبمعنى آخر، أصبح التحقيق الصحفي متخصصا في تفسير أبعاد الأخبار، وتقديم تفاصيلها المختلفة.
غير أن المنافسة الحقيقة بين المجلة المصورة والسينما والتليفزيون قد أثرت بالفعل على توزيع الصحف، حتى قيل عن المجتمع الإنجليزي مثلا أنه تحول إلى مجرد مجتمع ذي عيون زجاجية تحدق في شاشة من الكريستال1. ولم يكن مصدر المنافسة هذه المرة سرعة النشر كالإذاعة بل كان "معالجة موضوعات عديدة عن طريق التليفزيون بطريقة أقرب إلى القلوب والعقول وأحب إلى الأذن والعين معا. ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي نعالج فيه بطريق التليفزيون مختلف مشاكلنا الاجتماعية ونقضي على ما في مجتمعنا من رواسب الماضي وآفاته".
ولا شك أن السر في تفوق التليفزيون يكمن في قدرته على نقل الحدث حين وقوعه بصورته وفي حركته. وهو لا يكتفي بمجرد التسجيل بل بإعادة العرض وإمكانية النقل فورا إلى داخل البيوت بصورة حية سريعة تساوي سرعة الضوء، ولا شك أن هذه المنافسة قد جعلت الصحف -وخاصة المجلات المصورة- تتجه إلى العناية بموضوعاتها وصورها، حتى تصمد أمام هذه المنافسة الخطيرة. ولا شك أن اختراع الأقمار الصناعية لنقل البرامج التليفزيونية عبر القارات -بل وعبر الكواكب أيضا- قد مهد الطريق لانتقال فنون الإعلام إلى عصر جديد.
وقد اتضح من البحوث العلمية أن التليفزيون قد أدى إلى نقص ساعات القراءة من 21 ساعة أسبوعيا إلى 18 ساعة فقط، كما أن 49% من المقتنين لأجهزة التليفزيون قد توقفوا عن قراءة الكتب، 24% توقفوا عن قراءة المجلات، 3% عن قراءة جرائد يوم الأحد، 2% عن قراءة الصحف الصباحية1. غير أن التليفزيون لا يؤثر على الصحافة التفسيرية التي تعطي خلفيات الخبر وتشرحه، أما الصحف الترفيهية فقد تأثرث بالتليفزيون إلى حد كبير.
إن فن المجلة المصورة يواجه منافسا قويا هو التليفزيون بلا شك، غير أن الصحافة تستطيع أن تنافس التليفزيون نفسه بالنسبة للموضوعات العميقة، ذات الأبعاد المتعددة، والتفاصيل الدقيقة. فهنا تتفوق الكلمة تفوقا كبيرا. وحتى الأفلام التسجيلية السينمائية نفسها لا تستطيع منافسة الكلمة المطبوعة في الصحف والمجلات من هذه الناحية؛ لأن العمق الفكري لا يمكن بلوغ أغواره بدون الكلمة. ويذهب علم النفس الحديث إلى أن استعمال اللغة استعمالا عقليا واعيا يخرج بالمدركات من مجال الغموض اللاشعوري إلى حيز الوضوح الشعوري ويتفق وارد2 وستاوت3 في إنجلترا، وبرجسون4 في فرنسا، وكروتشي في إيطاليا، على أن اللغة هي مجموعة الرموز التي تنقل المعاني من إبهام الأحاسيس إلى نور الفكر. وفي رأيهم أن الرموز المصورة، لا يمكن أن تقوم مقام الأنماط اللغوية لأنها غامضة غير محدودة. وأن أدق الرموز للتعبير عن الأفكار هي الكلمات، إذا استعملت استعمالا عقليا واعيا.
وقد جربت مثلا فكرة إصدار مجلات مصورة بدون ألفاظ، ففشلت فشلا ذريعا؛ لأن الكلمة المقترنة بالصورة تتضافر لإبراز المعنى -وهذا هو جوهر الفن الصحفي. لقد أدت الصورة خدمة عظيمة للصحافة، ولكنها لا يمكن أن تطغى على الكلمة أو تحل محلها. وسوف تظل الكلمة المطبوعة خير وسيلة للتعبير والإبانة والوضوح، وخاصة بالنسبة للموضوعات الجادة ذات التفاصيل المتشعبة، والأفكار الدقيقة ذات الجوانب المتعددة، والعواطف الكامنة في النفس الإنسانية، التي تنتظر الكلمة لبيانها والإفصاح عنها بوضوح وجلاء، تقصر عنها الصورة مهما بلغت من الروعة والإتقان. وفي رأينا أن فن التحقيق الصحفي المصور سوف يظل أهم ما يميز الصحافة الحديثة في مواجهة وسائل الإعلام الأخرى.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)