المنشورات

فن المقال الصحفي

"سارية الربيع والعمود" عنوان كتاب إنجليزي شهير كتبه موريس هويليت1 عن فن المقال، وفيه يعقد المؤلف مقارنة شيقة بين فن المقال الأدبي وفن المقال الصحفي. فقد شبه الأول بسارية الربيع، وهي ذلك العمود الكبير الذي يتخذه الإنجليز رمزا لعيد الربيع، يزينونه بالزهور البديعة من كل صبغ. والورود الجميلة من كل لون، فتبدو السارية وكأنها العروس في جلوتها. ثم شبه المقال الصحفي بالعمود العاري من جميع هذه الزينة. وقد استعار الكاتب كلمة "العمود" هنا للتورية، فلهذا اللفظ معنيان: أولهما العمود بالمعنى المادي المعروف، والآخر "العمود" بمعنى النهر الذي يكتب في صحيفة من الصحف. وينعى الكاتب على الصحافة نبذها لتلك الزخارف الأدبية الجميلة، ويتهم أسلوبها بالجدب والإمحال، ويحن حنينا شديدا إلى تلك الأيام الخوالي التي كان الإنسان ينعم فيها بالفراغ وقراءة المقالات الأدبية الطويلة الزاهية، لا تلك الأعمدة الجافة السريعة في أنهر الصحف.
ونجد في كتاب "الأدب البريطاني المعاصر"2 نفس هذا المعنى؛ إذ يقول المؤلفون: "لقد أصبحت المشكلات التي يواجهها الأدباء خطيرة معقدة، بحيث لا تترك مجالا، ولا متسعا من الوقت أو الجهد لكي ينتجوا أدبا متعدد الألوان كالذي يتاح للأديب الذي يجد كثيرا من الفراغ. من الثابت أن الأديب أمامه متسع من الوقت ليكتب ما يشاء، وينشره متى يشاء. أما الصحفي فإنه مقيد بالمطبعة ومرتبط بمواعيدها، فهي تلهبه بسوطها، وتوقظه من سباته وكسله، فالأديب قد ينتظر الإلهام، أما الصحفي فعليه أن يكتب بمنتهى السرعة، وفي مواعيد منتظمة انتظاما دقيقا.
ويقول الدكتور طه حسين في نفس المعنى: "ولا بد للأديب أن يروض نفسه، ويسوسها حتى تألف الجهد والعناء والمشقة. ونرى أنها أيسر ما يجب لإنتاج الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدبا. ولا على الأديب أن يغضب أصحاب المطبعة إن أبطأ به الإنتاج عما ضربوا له من موعد، فذلك كله خير له من أنه يتعجل، فيرضي الصحيفة والمطبعة، ويسخط الفن ويفسد معه ذوق كثير من القراء. وهنا تفكر الصحف وتثور فهي لا تستطيع أن تنتظر الأديب حتى يتقن إنتاجه، ويصبح نشره شيئا لا حرج فيه. فمن أراد أن يكتب لها على شرطها فليعمل، ومن أبى إلا أن يكتب إلا على شرط الأديب فليلتمس لنفسه مذهبا آخر من مذاهب النشر"1.
وتتردد هذه المعاني أيضا في قول باحث مصري حديث إذ يقول: "وذهبت الصحافة بالفن الكتابي حتى أحالته إلى فن باهت اللون، لا حظ له من جمال الأصباغ التي تفتن العين. والسبب في ذلك أن الأديب يتاح له من الفراغ ما يجد له من أسباب التأنق والتحذق والتصنع والتفنن على حين أن الصحفي وراءه مطبعة تطالبه بغذائها كل يوم"2.
فهل هناك حقا ما يدعو إلى هذا التحسر على بساطة فن المقال الصحفي ونبذه للألوان المزخرفة والمحسنات المبرقشة؟ أم أن فن المقال الصحفي هو في الحقيقة فن يؤدي وظيفة أخرى مختلفة تماما عن فن المقال الأدبي؟ فإذا كانت الكتابة مضمونا وصياغة، فإن المقال الأدبي يضع الصياغة في المكان الأول، أما المقال الصحفي فإنه يهتم بالمضمون والفكرة التي يرمي إلى إيضاحها في يسر وجلاء. وإذا جاز لنا أن نشبه المقال الأدبي بلوحة زيتية متعددة الألوان، فإن المقال الصحفي صورة من اللونين الأبيض والأسود فقط، ولكنها تعبر عما تريد في وضوح وبساطة وقوة. بل إن المقال الصحفي أشبه شيء بفن الرسم الكاريكاتوري، الذي يعبر عن رأي ما في سرعة وسخرية، ولكن في قوة وحيويه، أما المقال الأدبي فهو صورة معبرة مليئة بالألوان. والواقع أن السرعة -وهي أهم مميزات الكتابة الصحفية- ليست هي المسئولية وحدها عن إخراج المقال الصحفي من حيز الأدب الخالد، إلى مجال الصحافة غير الخالد، بل السبب الأقوى هو أن المقال الأدبي يتصل بالأعماق البشرية، ومن هنا يمكن أن يكون أدبا عالميا يتجاوز الحدود المحلية والزمنية، في حين أن المقال الصحفي يرتبط بالأحداث الجارية والمشكلات الاجتماعية. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید