المنشورات
البيئة الأولى لفن المقال:
والحقيقة أن فن المقال الصحفي هو ثمرة للتقدم الحضاري، فهو بطبيعته لا يزكو إلا في بيئة يتكون فيها الرأي العام، ويتقدم فيها العمل السياسي، وتتصارع بها الآراء والاتجاهات، وينتشر فيها التعليم، وينهض الفنون، وتصبح الديمقراطية اتجاها مقبولا لدى الجميع، وينتقل التفكير من الذاتية والأسطورية إلى الواقعية والموضوعية.
فإذا نظرنا إلى فن المقال الأدبي نفسه لوجدنا أنه قد ظهر في بيئة ملائمة لنشأته، وجد فيها جوا صالحا للنمو والازدهار فمن الثابت أن فن المقال قد رأى النور في عصر النهضة الأوروبية1، حين كانت أوروبا تزيح عن كاهلها كابوس العصور الوسطى، بما فيها من تعصب ديني وضيق أفق وجهل مطبق. وقد امتازت هذه الفترة بظهور مدارس فلسفية جديدة، اعترفت بقيمة الإنسان، وثارت على احتقاره والتقليل من شأنه، فمجدت الإنسانية وأقرت للبشر حق السعادة، وأنكرت تعاليم الكنيسة التي حضت على الزهد، وإنكار حق البدن وإذلاله إذلالا. وقد أعلنها الكاتب الفرنسي رابيليه1 مدوية: أن المرح أهم صفات الإنسان2. أما الحزن والاكتئاب والعبوسي، وهي ما أرادته الكنيسة، فقد ولت أيامها بزوال لعصور الوسطى، وبزوغ فجر النهضة.
ومن الثابت أيضا أن تعاليم الإنسانيين3 قد استمدت من الدراسات الكلاسيكية في الأدب والفلسفة، وخاصة ملاحم هوميروس وفلسفة أرسطو، فتفتحت العيون على انتصار أوليس4 وهو يعلن ذاتيته الإنسانية أمام الآلهة، فكانت هذه الفكرة وأمثالها مما ألهب خيال بترارك وبوكاشيو وتشوسر5 وغيرهم، وعندما ثار الإنسانيون على تعاليم الكنيسة، بتقديسها للفلسفة انتشرت مذاهب الشك والنزعات الفردية، كما نبذت الفلسفة المدرسية6 المبنية على اليقين الديني، وحلت محلها فلسفة عقلية، أتاحت للفرد مجالا للتعبير الحر والبحث، فكانت نهاية للسلطة المطلقة والاستبداد الفكري، وتحطيما للأصنام الثابتة.
فأهم مميزات عصر النهضة -وهو الذي يمثل بيئة المقال الأصلية- نزعة التفكير الفردي والميل إلى المعرفة والرغبة في التجربة. وقد كانت أهم سمات العصر: حب الاستطلاع وتوسيع آفاق المعرفة البشرية، والتعطش إلى الارتباط بالمجهول، بدلا من الخوف منه والإعراض عنه، فخرج المغامرون يستكشفون الأقطار الجديدة في الأمريكتين، وأخذ الفلاسفة يفكرون في مجالات جديدة وبأساليب مبتكرة، كانت الكنيسة تحذرهم منها، وقد تكفل البروتسنانت بتحطيم سلطان رجال الدين, وتحرير الفرد من طغيان الكنيسة، منادين بأن الإنسان خليق بعبادة ربه دون وساطه أحد، فلا يليق أن يقف القس بين العبد والرب.
وهكذا كانت بيئة المقال الأولى بيئة حرية وإنسانية وفردية في عصر النهضة، فتحرر الفرد من قيود العصور الوسطى بنظامها الاجتماعي الجامد، وبدأت حضارة جديدة بعد أن حلت التجارة محل الزراعة كأساس للنظام الاجتماعي، وبعد أن قامت مجتمعات جديدة مبنية على جهود الأفراد، وخاصة أثرياء الطبقة الوسطى. وخلاصة القول، أن عصر النهضة يمثل نهاية النظام الإقطاعي، القائم على تقديس السلطة، وتقييد حرية الفرد في الدنيا والدين، وعندما هبت نسائم النهضة في أوروبا استيقظت من سباتها، ورأت ألوان الحياة، وأحست بمتعة الحركة والكشف، دون خوف من الكنيسة، واستمتعت بمباهج الحياة الدنيا، بعد أن كانت الكنيسة لا تسمح للفرد إلا باستعداد للحياة الأخرى، وخرج المفكرون من المنهج اللاهوتي إلى المنهج التجريبي، وانتقل النظام الاجتماعي من جمود الإقطاع الزراعي إلى النشاط التجاري، ومن الحكم الاستبدادي المطلق إلى ظهور الطبقة الوسطى التي كانت لها اليد الطولى في جمع الثروة والاختراع والتأليف والتقدم ثم المطالبة بالاشتراك في الحكم.
وقد رأينا أن مميزات هذه البيئة هي نفسها مميزات فن المقال: فلولا الإيمان بعقل الإنسان، واحترام ذاتيته، وحب الاستطلاع، والرغبة في المعرفة، وحرية البحث ونشاط الفرد -وهي جميعا مميزات عصر النهضة- لما قدر لفن المقال أن يرى النور.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)