المنشورات

عصر النهضة والتنوير:

"لا بد أن تتغير بلادنا" هذه هي الصيحة التي ترددت في عصر التنوير المصري في القرن التاسع عشر. وكانت هذه الصيحة معاصرة تماما لظهور فن المقال الصحفي. ولعل منشئ هذا الفن في بلادنا وهو رفاعة الطهطاوي "1801-1873" -صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز- قد شغف بالعلوم الحديثة التي تعلمها في باريس على يد شومار وشواليه، وشهد ثورة الشعب الفرنسي ضد الملك شارل العاشر ووزيره بولنياك، فكره الحكم الاستبدادي، وعاد إلى مصر زعيما فكريا وثقافيا، ومعلما رائدا، وصاحب فضل في إنشاء فن المقال في جريدة الوقائع المصرية ومجلة روضة المدارس. 

وفي عصر التنوير المصري، ترجم عبد الله أبو السعود صاحب جريدة وادي النيل أوبرا عايدة إلى اللغة العربية سنة 1861، وترجم ابنه محمد أنسي قصة جول بلاز1 وترجم محمد عثمان جلال صاحب نزهة الأفكار قصة يول وفرجيني وجعل لها عنوانا غريبا -وإن كان يتمشى مع لغة العصر- وهو "الأماني والمنه في حديث قبول وورد جنه". وترجم أديب إسحاق صاحب جريدة مصر وجريدة التجارة رواية أندرماك ورواية شارلمان وغيرهما.
ثم كان ظهور فن المجلة وخاصة مجلة الجنان لبطرس البستاني ثم المقتطف -التي انتقلت إلى مصر- ليعقوب صروف، واللطائف لشاهين مكاريوس، والهلال لجورجي زيدان والمشرق للأباء اليسوعيين وغيرهما من المجلات الأخرى التي أعطت لفن المقال الصحفي مجالا واسما للتطور والازدهار.
ولكن كيف تتغير بلادنا؟ هذا هو السؤال الملح الذي حاول المفكرون والمصلحون أن يجيبوا عنه في عصر التنوير. ولا شك أن "حديث عيسى بن هشام" التي نشرها المويلحي في شكل قصصي بجريدة مصباح الشرق كانت نقدا اجتماعيا غاص في أعماق المجتمع المصري، وجاء كتاب محمد فريد وجدي بعنوان "تطبيق الديانة الإسلامية على النواميس المدنية" وهو الكتاب الذي أعيد طبعه فيما بعد بعنوان "المدينة الإسلامية" دفاعا عن الإسلام، وتطهيرا له من البدع والخرفات. كما أن مقالات قاسم أمين ردا على دوق داركور الذي تعرض لذم الدين الإسلامي، وكذلك مقالات الشيخ محمد عبده ردا على هانوتو الذي هاجم الدين أيضا -كانت كلها في نفس الاتجاه الاجتماعي الإصلاحي.
ولا شك أن ترجمة أحمد فتحي زغلول لكتاب أدمون ديمولاند بعنوان: "بم تقوم أفضلية الإنجليز السكسونيين" سنة 1899 -والذي نشر بشكل مقالات في جريدة المؤيد- على النحو الذي نشر به قاسم أمين كتابه تحرير المرأة- قد أثر تأثيرا بالغا في نفوس المصريين. نحن نقرأ في مقدمة الكتاب: "نحن ضعاف أمام الغرب، ضعاف في الزراعة، ضعاف في الصناعة، ضعاف في التجارة، ضعاف في العلم، ضعاف في العزيمة، ضعاف في الألفة والمودة، ضعاف في النخوة والشعور الملي "يريد الديني"، ضعاف في الجامعة القومية، ضعاف في الخيرات، ضعاف في طلب الحقوق وأداء الواجبات، ضعاف في حفظ ما ترك الآباء، ضعاف في التحصيل، ضعاف حتى نرجو كل شيء من الحكومة.." ثم يختم كلامه قائلا "ودواؤنا في التربية وسلامتنا في نشر العلوم والمعارف".
وثمة كتاب آخر لفت نظر المستشرق هنري بيريس1، وهو كتاب "حاضر المصريين وسر تأخرهم" للكاتب المصري محمد عمر وقد صدر سنة 1902، وكتب مقدمته أحمد فتحي زغلول نفسه، وفيه يقسم المؤلف المجتمع المصري إلى طبقات ثلاث: الطبقة الغنية، والطبقة المتوسطة، والطبقة الفقيرة، وذهب إلى أن لكل واحدة عيوبا تختص بها، وأخذ يذكر ما يره علاجا حاسما لكل عيب منها على حدة. ويتجه الكاتب اتجاها تحليليا فكريا مستعينا بالإحصاءات فيقول مثلا: "في القاهرة وحدها زاد عدد دور القمار في ثمان سنوات فقط إلى 7475 دار للعب، وكانت قبل ذلك 316 دارا فقط، أي أن الزيادة بلغت 5169 دارا بالقاهرة". وقد أزعجت هذه الظاهرة جريدة المؤيد، فانبرى الشيخ علي يوسف يهاجمها، وطبع خطابات خاصة ملحقة بالجريدة، وطلب من القارئ أن ينزع الخطاب ويملأ البيانات المكتوبة ويوقعها باسمه، ويبعث بها إلى جريدة المؤيد أو إلى نظارة الداخلية، وكثرت الأصوات المطالبة بإغلاق دور القمار فاضطرت الحكومة إلى السعي حثيثا في ذلك.
وقد حركت تقارير اللورد كرومر واتهامه المصريين بالجهل والتعصب همم المصريين، وحفزتهم إلى العمل، وانبرى الكتاب يدافعون ويعلقون ويحللون، فكان ذلك نعمة على فن المقال الصحفي. فالشيخ علي يوسف مثلا يعارض اللورد كرومر في قوله إن الجامعة الإسلامية دعوة تعصب وإثارة للحروب الصليبية ويعلق على ذلك قائلا: "الجامعة الإسلامية إذن ليست في الواقع إلا شعورا عاما لدى المسلمين جميعا بالظلم، وشكايات متكررة من وقع هذا الظلم، ورغبة عامة في النهوض بالأمم الإسلامية للتخلص من آثار الظلم إلى الأبد".
فلا شك -إذن- أن بيئة التنوير، وعصر النهضة الفكرية، وتفجير طاقات النقد والنقد الذاتي، والابتداع في التحليل والتشخيص، والاتجاه نحو الترشيد والعقلانية، وظهور الرأي العام المصري وتكونه من خلال الصحافة والتعليم، والتأثر بالتيارات الفكرية الحديثة، والرغبة في التغيير السياسي والاجتماعي كل هذه الظروف والعوامل قد هيأت الجو لظهور فن المقال الصحفي لأنه بطبيعته فن حضاري يزدهر في بيئة الفكر والعلم والنهضة والتنوير. 










مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید