المنشورات
مولد في المقال وخصائصه:
فليس غريبا -إذن- أن يكون مونتاني منشئ هذا الفن، وهو الفيلسوف الشاك، الذي قدر قيمة الفكر وذاتية الإنسان. وهو يذكر في مقدمة مقالاته التي صدرت في يونيو سنة 1588: "أن ذاتي هو موضوع مقالاتي"1. وقد كانت هذه العبارة بحق إيذانا بمولد فن المقال، وثورة أدبية جديدة أحدثت انقلابا خطيرا في الموضوعات والأساليب على السواء. فالموضوعات قبل عصر النهضة وقبل مونتاني، كانت ملكا للجميع، ثابتة محددة، أشبه شيء بالمنهل العام الذي يغترف منه الأدباء والشعراء، وكانت الموضوعات محصورة في ثلاث اتجاهات هي: البطولة والشجاعة والحرب.
وأتى فن المقال -على العكس من ذلك- تعبيرا ذاتيا غير شائع، ووجهة نظر خاصة. ولا شك أن هذا الاتجاه الفردي يرتبط ارتباطا وثيقا بالاتجاه العام لروح عصر النهضة فنعتبره جزءا لا يتجزأ من هذه الروح. فكما كانت تعاليم الكنيسة مصبوبة في قوالب جامدة فثار البروتستانت -بتأثير من الفكر الإسلامي- عليها، وكما كان نظام الإقطاع محددا تحديدا متعسفا فحطمه المفكرون والطبقة الوسطى، وكما كانت ألوان فن التصوير محددة فأصر المصورون على تنوعها وتحررها، وكما كانت التقاليد الفلسفية تقاليد مدرسية شكلية، فاتجه الفلاسفة اتجاها عقلانيا حرا، وكذلك كانت الموضوعات الأدبية الآسنة سببا في ثورة مونتاني، فكان المقال -هو الآخر- تعبيرا عن الذاتية، وانطلاق الذهن، فيتخذ مونتاني من نفسه موضوعا خاصة لأدبه يعبر عن رأيه واتجاهه وشعوره وإحساسه.
وقد يقال هنا أن رسائل شيشرون1 الروماني وخطبه، وخطابات سينيكا2 إلى لوسيليوس3 وتعاليم بلوتارك4 الأخلاقية، والخطب والحكم العربية التي عرفت في عصر الجاهلية يمكن اعتبارها مقالات لاتجاهاتها الذاتية، ولكن هذا الزعيم غير صحيح لأنه يهمل بعض مميزات فن المقال للأسباب الآتية:
أولا: لا يمكن مقارنة هذه المؤلفات والأعمال الأدبية في تعبيرها الذاتي بفن مونتاني، فإذا كان هؤلاء قد تحدثوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك عرضا وعلى نحو غير مقصود، وتعوزه روح الألفة، أما المقال فهو طراز فني يقصد منه اجتذاب نظر القارئ وإثارة تشوقه بالتحدث إليه مباشرة. فهو أقرب شيء إلى المحادثة المرسلة الحرة، فالكاتب يحدث صديقه القارئ على قدم المساواة دون إملاء أو استعلاء. فالفرق بين هذه المؤلفات وفن المقال، أن شخصية الكاتب في الأولى تكاد تكون مفروضة فرضا على القارئ، في حين أن شخصية كاتب فن المقال تصبح موضوعا طريفا محبوبا جذابا. وقد كان اتجاه مونتاني المشرب بالدعابة والاستخفاف وروح الألفة وعدم التكلف، والمصادقة والإيناس هو الذي أعطى لفن المقال طابعه المميز له. فهو يتحدث دون تكلف عن والده "الذي يكن له كل احترام وتبجيل"، ويقدم لنا كبار الأدباء والعلماء متحدثا عنهم بصراحة تامة ومبديا فيهم رأيه الخاص.
وهكذا أرسى مونتاني أهم قواعد فن المقال وهي نعمة المساواة بين الكاتب والقارئ التي تنم عن روح الصداقة غير المتكلفة. ومن ناحية أخرى، يكتب عن الموضوعات من وجهة نظره هو، وكأنه يعلنها مدوية: أنا مونتاني أتحدث إليكم، أيها الأصدقاء، عن نفسي دون تكلف1، فنغمة المساواة التي تصطنعها الصحافة الحديثة في اليوميات وفي المقالات بعنوان "تعال معي" إنما تضرب بجذورها في القرن السادس عشر الذي عاش فيه مونتاني2.
ثانيا: غير أن التحدث عن النفس أو الكتابة الذاتية، تستلزم في الواقع أسلوبا خاصا يتناسب معه، ويمتاز بالمرونة واليسر والبساطة وعدم التكلف لكي يعبر عن روح الألفة ونغمة المساواة، وعلى العكس من ذلك نجد أن مؤلفات القدماء من أمثال شيشرون وهوارس وبترارك، وحتى مذكرات أرازموس الهولندي قد كتبت باللغة اللاتينية، مما أفسد أهم مميزات المقال وهي صفة "العادية" أو الألفة وعدم التكلف.
ومن هنا كان مونتاني الرائد الأول لفن المقال لأنه أول من حطم الحاجز السميك بينه وبين القارئ، في المضمون والأسلوب على السواء، فاستطاع أن يعبر عن نفسه، وأن يعرض على القارئ أحاسيسة ومشاعره بصراحة ساخرة، متحدثا في موضوعات جذابة شائقة ومغامرات خاصة به، بأسلوب سلس مباشر، عادي صادق التعبير، لا تثقل فيه الزخرفة أو التنميق. وذلك يذكرنا بتطور فن المقال المصري الذي أخذ يتخلص من النشر التقليدي المحبوس في أورقة الأزهر، والموشى بالمحسنات اللفظية والبديعية، والموشح بالأشعار والحكم والأمثال، لكي ينطلق من الزخرف إلى العبارة الدالة، ومن أسار الموضوعات التقليدية إلى رحابة الموضوعات السياسية والاجتماعية العامة.
وهل كان مونتاني يستطيع الوصول وحده إلى فكرة التعبير الذاتي واحترام الفردية ونغمة الألفة وأسلوب الدعابة والخفة لولا أن هذه جميعا كانت صفات عصر النهضة التي تجاوب معها القراء؟ وهل كان الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ومصطفى كامل صاحب اللواء، وأحمد لطفي السيد محرر الجريدة، ومحمد حسين هيكل محرر السياسة، وعبد القادر حمزة صاحب البلاغ وغيرهم أن يحرروا أسلوب فن المقال، لولا أن البيئة نفسها كانت مواتية للنهضة، ومهيأة لمعالجة الموضوعات السياسية والاجتماعية الجديدة، لما يغمرها من تيارات فكرية إسلامية وأوروبية وشرقية ومصرية؟
وهل كان مونتاني وحده يستطيع استعمال أسلوب اللغة القومية بدلا من اللاتينية، لولا أن هذه الحركة كانت أهم مميزات عصر النهضة الذي عاش فيه وهو عصر ظهور القوميات؟ وقد جاء عزوف الكتاب المصريين عن الأسلوب التقليدي متوافقا مع ظهور القومية المصرية التي تحدث عنها أحمد لطفي السيد بقوة وإقناع في "الجريدة" كما كان الاحتلال البريطاني نفسه دافعا قويا للتمسك بالقومية.
ثالثا: تعد النزعة العقلية من المميزات الأساسية لمقالات مونتاني، وسمة تميز فن المقال بوجه عام عن غيره من طرز الأدب الأخرى، والمقال اتجاه فكري أو وثبة ذهنية -كما يقول الدكتور جونصون- تعبر عن رأي صاحبها. والمعروف أن حركة العقلانية، والعزوف عن التفسير الديني أو الغيبي للحقائق والمشكلات، كانت أهم خصائص عصر النهضة الأوروبية، كما كانت أيضا أهم خصائص عصر التنوير في مصر، وقد قادها على الصعيد الأدبي الدكتور طه حسين وعلى الصعيد الاجتماعي قاسم أمين والشيخ محمد عبده نفسه، وعلى الصعيد السياسي أحمد لطفي السيد، وترددت هذه الاتجاهات العقلانية في جريدة "السياسة" بصورة رائعة.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)