المنشورات
بيكون مؤسس فن المقال الإنجليزي:
كان طبيعيا، إذن، أن ينشأ فن المقال في عصر النهضة، وأن يظهر على يد فيلسوف شاك وإنساني مفكر شعاره "ماذا أدري؟ " وهو مونتاني، فلم يكن غريبا كذلك أن يكون منشئ فن المقال الإنجليزي أصدق الناس تمثيلا لعصر النهضة وهو السير فرانسيس بيكون "1561-1562" المعاصر لشكسبير. وقد كلف السير سدني لي1 نفسه عناء كبيرا لكي يثبت أن ثمة علاقة كانت بين مونتاني وبيكون، ومفسرا ذلك بأن شقيق السير فرانسيس بيكون الأكبر -واسمه أنتوني بيكون-2 عاش في مدينة بوردو الفرنسية، التي كان مونتاني يتولى منصب العمدية فيها بين سنة 1583 وسنة 1591، وكان أنتوني يكتب خطابات إلى أخيه فرانسيس يحدثه فيها عن مقالات مونتاني.
ولكن هذه العلاقة العابرة وحدها لا يمكن أن تنهض دليلا مقنعا على سبب ظهور فن المقال في بريطانيا. "فمن الثابت أن مقالات مونتاني قد ترجمت إلى الإنجليزية في نفس السنة التي صدرت فيها، وذلك عندما منح التصريح إلى جمعية الناشرين1 لترجمتها ونشرها ولك -بطبيعة الحال- قبل ترجمة فلوريو المشهورة سنة 1603 بعدة سنوات.
ولكن مجرد قراءة هذه المقالات ذاتها لا يكفي لتعليل نشأة فن المقال في بريطانيا، كما أن اطلاع رفاعة الطهطاوي على الصحافة الفرنسية ومقالاتها لم يكن كافيا لنشأة فن المقال في مصر. ولعل السبب الأصيل لظهور فن المقال الفرنسي، هو نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال الإنجليزي، وكذلك نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال المصري ألا وهو ملاءمة البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لطبيعة فن المقال نفسه. والحق أنه ما من شخصية في بريطانيا مثلت عصر النهضة بخيره وشره تمثيلا صادقا مثل السير فرانسيس بيكون، صاحب الفضل في الطريقة الاستنباطية، ومحرر الفكر من قيود التقاليد، ومنقذ أسلوب الكتابة من قيود الغموض والإغراق في الزخارف اللفظية.
وقد كان بيكون عالما مغرما بروح التجريب والبحث والدراسة العلمية، وهي مميزات عصر النهضة الأوروبية، كما اهتم بأمور الدنيا متمتعا بلذاتها وأريج عطورها وجمال زهورها وبريق جواهرها. ثم إن فلسفة الانتهازية تعكس فلسفة ميكافيللي زعيم ساسة عصر النهضة في إيطاليا. وإذا كان الملك قد تغاضى عن وضاعة بيكون عندما امتدت يده إلى الرشوة، وانحطت نفسه إلى الوشاية والالتواء. فإن المؤرخين المحدثين يميلون إلى التغاضي عن ذلك أيضا. ولعله دأب الإنجليز عند المفاخرة بتراثهم.
غير أننا قلنا إن ظهور فن المقال يرجع إلى بيئة عصر النهضة المواتية والتي عبر بيكون بمقالاته عن روحها، فنحن لا ننكر كذلك أن بيكون قد تأثر بمونتاني. وليس أدل على ذلك من أن المقال الأول الذي كتبه بيكون "عن الحقيقة"1 يحتوي على نبذة منقولة عن مونتاني، كما أن مقاله الثاني "عن الموت2 كان من أهم الموضوعات التي كتب عنها الفيلسوف الفرنسي مونتاني.
وسواء كان التأثير مباشرا عن طريق النهضة أو غير مباشرة عن طريق مونتاني فقد كان بيكون له طريقته الخاصة في الكتابة، فهو بفلسفته التجريبية، وعقليته العلمية، كان لا بد أن يتخذ لنفسه أسلوبا يختلف عن أسلوب مونتاني الفيلسوف النظري الشاك. وبيكون عالم موسوعي المعرفة يذكرنا بأرسطو وبالجاحظ. وقد وجد هذا الفيلسوف في فن المقال خير مجال للتعبير عن أفكاره وخواطره، وإن كان قد لونه بشخصيته، وشكله بمزاجه.
وشتان بين أسلوب مونتاني الذاتي الخاص وأسلوب بيكون الذي يقترب من الحكم المتناثرة التي لا رابط بينها إلا الموضوع نفسه. ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض الباحثين المحدثين إلى الزعم بأن فقر التوراة كسفر الحكمة، وسفر النساء الفاضلات تعد مقالات، باعتبار أن مجموعة الحكم حول موضوع معين تكون مقالا. وهم يضربون بذلك أمثلة مما جاء في مقالات بيكون في كتابه الأول الصادر سنة 1597، وخاصة مقاله عن "الدراسة"3 وكتابه الثاني الصادر سنة 1625، وخاصة مقاله "عن الشدائد"4.
غير أننا نتفق مع هذا الرأي لأن حكم التوراة، وتلك الحكم التي أثرت عن العصر الجاهلي، لا يمكن أن تعد مقالات. وذلك أنه فضلا عن اختلاف الأسلوب فنحن نجد أن صفة الذاتية والتعبير عن وجهة نظر الكاتب الشخصية كإنسان يروي خبرة معينة خاصة به تنعدم في هذه الحكم ذات الصبغة العامة. وعلى العكس من ذلك نجد أن مقالات بيكون، بالرغم من تناثر العبارات، تعكس نفسية الكاتب وذاتيته، وتعبر في وضوح وجلاء عن أفكاره الانتهازية التي يستحيل أن تكون حكما عاما. فهو يرى -مثلا- أن الحرب نافعة ومفيدة لأنها تقوي روح الشجاعة والإقدام، وتنمي ملكات الناس وخصالهم. ويقول إنه يكفي مجرد الخوف من تسلط دولة على دولة لقيام الحرب بينهما، قبل إعلانها فعلا. وهو يرى أن غير المتزوجين هم أحسن الأصدقاء، كما أنهم خير السادة وأفضل الخدم، أما الزوجة والأولاد فأثقال ورهائن وأخطار. والبرلمانات -في نظره- هيئات استشارية، وليست حاكمة، وإذا حكم الملك وفقا للقانون، فهذا تنازل منه!
وتصطبغ هذه الآراء بصبغة الشخصية بلا شك، وإن كانت تعبر عن أحداث بعينها تعبيرا مباشرا، وتصور خبرات خاصة يرويها الكاتب للقارئ بطريقة المناجاة والإفضاء كما فعل مونتاني. ولعل السبب الذي جعل بيكون يكتب بطريقة العبارات المتناثرة هي رغبته في الابتعاد عن التكلف، أو أنه كان شديد العناية بأفكاره فكان يدونها كالمذكرات الخاصة، اعتقادا منه أنها دين عليه لا بد وأن يؤديه إلى الأجيال اللاحقة، فوجد في فن المقال قالبا صالحا لتسجيل أفكاره وخواطره، على نحو يشبه كثيرا تلك المذكرات الخاصة التي يكتبها الكاتب لنفسه، تعليقا على حادث خبره أو كتاب قرأه. ويقول ماكولي إن بيكون بلغ به الحرص على تدوين خواطره أنه أملى ذات يوم أطرف النكت التي يعرفها لأنه لم يكن ميالا للعمل الجدي بسبب مرضه، ولعل المقال الساخر -وخاصة في الصحافة- يضرب بجذوره العميقة حتى تلك الحقبة.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)