المنشورات

المقال بين الأدب والصحافة:

وهكذا نرى أن فن المقال قد ولد في بيئة النهضة الأوروبية، كما أنه انشعب إلى شعبتين: شعبة يغلب عليها الطابع الذاتي ويمثلها مونتاني، وشعبة أخرى تهتم بالموضوع من نواحيه المختلفة. والكتابة الذاتية تتخذ من موضوع المقال نقطة قفز إلى التعبير الذاتي، ويقول دريدن1 في مقدمة كتابه عن "القصص الخرافي": إن أهم خصائص المقدمة "وهي نوع من المقال" التجوال بحيث لا تخرج عن الموضوع خروجا تاما ولا تظل مرتبطة به دائما، وقد تعلمت هذه الطريقة من مونتاني.
وتعد مدرسة مونتاني تعبيرا صادقا عن فن المقال الأوروبي، ولها أتباع وتلاميذ حتى يومنا هذا. ولا شك أن الكاتب الإنجليزي إبراهام كاولي1 "1618-1667" يتقن فن المقال على طريقة مونتاني الذاتية، فكتب مقاله وكأنه صديق يسر إلى صديق، ويضع عنوانا له "عن نفسي" وقد جاء فيه:
"أعترف أنني أحب كل شيء صغير. فالمزرعة الصغيرة ممتعة، والبيت الصغير بهيج والأصدقاء لا بد وأن يكونوا قلائل، والوليمة الصغيرة لطيفة. وإذا قدر لي أن أعشق مرة أخرى "ولكن الحب عاطفة كبرى وعلى ذلك فإنني أرجو أن أتخلص منها سريعا" فلن أعشق إلا خفة الظل، ولن أميل إلا إلى الجمال المتواضع، لا الجمال الفاتن الجبار. والحقيقة أنني أكره العظمة والشموخ ... ".
وما أقرب هذا الفن الذاتي الرشيق من فن كاتبنا المصري إبراهيم عبد القادر المازني "1889-1949"، وذلك الكاتب المتواضع، خفيف الروح، وحتى عناوين مقالاته وكتبه مثل: حصاد الهشيم، وخيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا، وفي الطريق، وقبض الريح، ومن النافذة، وع الماشي، تنبئ بتلك الروح وتعبر عنها. مثال ذلك مقدمة لكتاب صندوق الدنيا التي يبدؤها بقوله: "إلى التي منها معدني، وإليها المآل.. إلى أمنا الأرض".
ويقترب فن المقال عند الدكتور طه حسين من فن مونتاني. "فمن الصفات التي أعانته على النجاح في ميدان الصحافة صفة السهولة في التعبير، والواقعية في التصوير، والإيناس في إجراء الحديث، حتى ليشعر القارئ لمقال من مقالات هذا الأديب أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض أخواته، يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها"1.
وقد تلقفت الصحافة فن المقال الأدبي، واستثمرته كقالب جديد تصوغ فيه الأفكار، وتتخذ منه سلاحا ماضيا للنقد والتعقيب. وأداة فعالة للتوجيه والإرشاد. وقد أضافت مدرسة تصوير الشخصيات قوة جديدة إلى مدرستي مونتاني وبيكون، مستمدة من تحليل الشخصية وتصوير النماذج الإنسانية والاجتماعية تصويرا ساخرا فكها على طريقة ثيوفراست بأسلوب سلس جذاب، وحضور بديهة وقوة عارضة، ويذكرنا بكتابات الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير التي أربت على خمسين صفحة من القطع الكبير، يصف فيها أحمد بن عبد الوهاب، وتفنن فيها الجاحظ ألوان كثيرة من التفنن في السخرية والنقد.
وقد نبغ في هذا الفن من كتابنا المحدثين إبراهيم المويلحي صاحب مصباح الشرق وعبد العزيز البشري في مجلة السياسة الأسبوعية، وفكري أباظة في مجلة المصور، وأحمد حافظ عوض في مجلة خيال الظل. يقول عبد العزيز البشري في وصف زيور باشا:
"الواقع أن زيور باشا رجل -إن صح التعبير- يمتاز عن سائر الناس في كل شيء. ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله، ولا عرضه، ولا بعد مداه. فإن في الناس من أهم أبدن منه. وأبعد طولا، وأوفر لحما. إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا. أما صاحبنا، فإذا اطلعت عليه أدركت -لأول وهلة- أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، ومنها المتيبس المتحجر، ومنها المسترخي المترهل، وعلى كل حال لقد خرجت هضبة عالية مالت من شغافها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان..". 

ويستطرد الكاتب قائلا: "والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه الممتلكات الواسعة عاجز تمام العجز عن إدارتها، وتوليها بالمراقبة والإشراف. وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي..".
ويختتم المقال قائلا: "ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل"1.
ولا شك أن أسلوب السخرية الذي امتازت به مدرسة تصوير الشخصية، وهو الذي هيأ المقال لكي يكون أعظم ركن من أركان الصحافة، وخاصة منذ اكتشاف الفن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مصر. فقد أصبحت السخرية أمرا لازما للمقال الصحفي فلا ينبغي أن يخلو منه هذا العنصر المهم، ما دام الكاتب الصحفي في معرض النقد والتوجيه، "بحيث إذا خلا المقال الصحفي من هذه الحالة من السخرية الخفيفة أصبح لا غناء فيه"2. 










مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید