المنشورات
المقال الأدبي والمقال الصحفي:
وإذا كان عصر النهضة هو البيئة المواتية لظهور فن المقال الأدبي، فقد كان عصور التقدم العلمي، والتنوير الفكري، وتكون الرأي العام، وظهور الطبقة الوسطي التي تمتاز بعقلية واقعية، وتهتم بمشكلات المجتمع العملية من أهم عوامل ظهور فن المقال الصحفي. والواقع أن تقدم المجتمع، وتحرره من تقاليد الإقطاع، وانتصار الطبقة الوسطى التقدمية، والاعتراف بقيمة الإنسان، واحترام شخصيته، والكف عن إيلام الفرد، والبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة، وإجراء التجارب لغرض البحث، وإنشاء العلاقات الاقتصادية الجديدة القائمة على التجارة والزراعة الحرة بدلا من الزراعة الإقطاعية، وتكوين الشركات والمصارف كل هذه العوامل الحضارية قد هيأت الجو لظهور فن المقال الصحفي.
ويلاحظ أن تطور الحماية الأدبية ورعاية الفنون عامة وانتقالها من طبقة إلى أخرى على مر العصور قد أثر تأثيرا قويا في شكل المقال وأسلوبه. فعندما كان المقال موجها إلى الارستقراطية والطبقة الوسطى المثقفة كمقالات أحمد لطفي السيد في الجريدة، ومقالات أديب إسحاق في مصر والتجارة، كان لا بد للكاتب أن يعنى بدقة اللفظ، ورصانة العبارة، وجمال الذوق في الكتابة. وعندما دالت دولة الارستقراطية بعد الثورة الفرنسية، وبعد الثورة المصرية في 23 يوليه سنة 1952، وبدأت عهود الديمقراطية، انتقلت الرعاية الصحفية إلى سواد الشعب، فكان لا بد لأسلوب الكتابة الصحفية أن يتغير ويشكل نفسه تشكيلا جديدا، يتلاءم مع عقلية السادة الجدد، وجلهم من العمال والفلاحين وصغار الموظفين.
وقد كان فن المقال الصحفي غير معروف في البداية، ولم يكن هناك فرق بين المقال الأدبي والمقال الصحفي. فكان المقال مقيدا بقيود الماضي، وبالطريقة الأدبية العالمية، حتى جاء الشيخ محمد عبده فأخذ يقترب شيئا فشيئا من لغة الصحف، ثم جاء السيد عبد الله النديم واقترب كثيرا منها، وأعانه على ذلك ميله الطبيعي إليها. وبدأت بوادر فن المقال الصحفي عند الابتعاد عن فن الأناقة الفنية المتكلفة، والزخارف المعقدة. ولم يكد ينتهي القرن التاسع عشر حتى أصبح للصحافة في مصر لغة خاصة بها، وظهر ذلك جليا في كتابات الشيخ علي يوسف السياسية في المؤيد، وكتابات مصطفى كامل في اللواء، ولطفي السيد في الجريدة، وعبد القادر حمزة في البلاغ وغيرهم من كتاب المقال الصحفي.
وفي رأينا أن فن المقال الصحفي يختلف عن فن المقال الأدبي اختلافا جوهريا، وذلك من حيث الوظيفة والموضوع واللغة والأسلوب جميعا. فمن الثابت أن المقال الأدبي يهدف إلى أغراض جمالية، ويتوخى درجة عالية من جمال العبارة، وذلك كما يتوخاها الأديب الذي يرى الجمال غاية في ذاته، وغرضا يسعى إلى تحقيقه. أما المقال الصحفي فإنه يهدف أساسا إلى التعبير عن أمور اجتماعية وأفكار عملية، بغية نقدها أو تحبيذها. وهو على كل حال يرمي إلى التعبير الواضح عن فكرة بعينها. فكأن الوظيفة الاجتماعية الفكرية في المقال الصحفي تتقدم على أية ناحية أخرى كالمتعة الفنية مثلا.
حقيقة أن المقال الأدبي قد يتناول أحيانا موضوعات اجتماعية أو سياسية أو غيرها -وقد جاء هذا التطور الأدبي نفسه متأثرا بالصحافة- ولكن هذه الموضوعات لا تخرج عن كونها نقطا للارتكاز، ينفذ منها الكاتب نحو هدفه الأسمى، وهو التأثير الجمالي. وكذلك المقال الأدبي قد يكون جميلا -وهنا أيضا يبدو تأثره بالمقال الأدبي واضحا- إلا أن هدفه الأول ليس جماليا خالصا، وإنما هو بالدرجة الأولى اجتماعي فكري.
فالفرق بين المقال الأدبي والمقال الصحفي يتمثل في الفرق القائم بين الفن الجميل كالتصوير والنحت والزخرفة والشعر، والفن التطبيقي كالعمارة والأثاث والحفر وغيرها وكلاهما فن لا شك فيه، إلا أن الأول يستغل خامات اللون واللفظ للوصول إلى الجمال، أما الثاني فلا بد أن يدخل في اعتباره أمورا عملية فنية اجتماعية. فالمقال الأدبي كالفن الجميل لا يلقي بالا إلا إلى قواعد الإنتاج الفني الخالص، أما المقال الصحفي فلا بد أن يراعي أمورا متعددة كمستوى القراء وثقافتهم، وسياسة الصحيفة، وقوانين المطبوعات والرقابة والتعبير المبسط عن الأفكار المعقدة لتلائم السواد الأعظم من الشعب.
وبينما يكتب الأديب لطائفة من الناس تعشق فنه، في الوقت الذي يشاء، بغية التأثير تأثيرا جماليا، إذا بالصحفي يكتب لكل الناس، وفي كل وقت سواء راقه أو لم يرقه. ولعل أهم ما يميز الأديب عن الصحفي أن هذا الأخير يفترض دائما قارئا وهميا متوسط الثقافة عادي الذكاء، ويكتب بأسلوب يفهمه العامة ولا ينفر من الخاصة، ويتحدث إلى عقل القارئ مباشرة في وضوح ويسر، أما الأديب فلا حاجة له أن يتقيد بهذه القيود، فهو حر يكتب بالأسلوب الذي يجيده، ويتحدث بالطريقة التي يتقنها. ثم إنه غير مسئول بعد ذلك إذا عجز عن فهمه بعض الناس أو اقتصر تذوق أدبه على طائفة مثقفة دون غيرها.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)