المنشورات

من الأدب إلى الصحافة:

إن الأدب فن ذاتي، يتصل بالنفس البشرية، أما الصحافة، فهي فن اجتماعي يتصل بحياة المجتمع، فالمقال الأدبي يتصل بأعماق النفس والعواطف الإنسانية "فهو يعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه، ومن هنا قيل إن المقال الأدبي قريب جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كليهما يغوص بالقارئ إلى أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، ويتغلغل في ثنايا روحه حتى يعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقال الأدبي والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة، تعلو وتتناغم قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالا أدبيا1. أما المقال الصحفي فيتصل أكثر ما يتصل بأحداث المجتمع الخارجي عامة، كما يفترض وجود رأي عام يخاطبه ويتحدث إليه، وبمعنى آخر، يمكن القول أن المقال الأدبي يدخل في اعتباره عواطف الفرد ووجدانه، أما المقال الصحفي فيهتم بما يسمى "بالوجدان الجماعي".
فالصحافة مرآة تنعكس عليها مشاعر الجماعة وآراؤها وخواطرها. ومن هنا جاء تعريف أوتوجروت لها بأنها تجسيد لروح الأمة. أما الأدب فمرآة تنعكس عليها مشاعر الأديب وآراؤه وخواطره. وإذا كان المقال الصحفي يهتم بتفاصيل ما يجري من الأحداث اليومية في المجتمع، وبتسجيل الإحصاءات والأرقام التي جمعت والكلمات التي قيلت، والأحداث التي وقعت، كأنه يثبت جسم الحقيقة، فإن المقال الأدبي ينفذ إلى روح تلك الإحصاءات والأرقام والكلمات والأحداث. فالمقال الصحفي يهتم بالواقع والتفاصيل، أما المقال الأدبي فإنه يهتم عادة بالقيم2. ولذلك فإن الفرق بين الأديب والصحفي في فن المقال هو في نزوع أحدهما إلى أعماق النفس البشرية ونزوع الثاني منزع الناقد الاجتماعي، أي أن الفرق بينهما كالفرق بين رجل يشرف على الحياة من أعلى الجبل ورجل يضطرب في الحياة نفسها، ويخالط الناس أنفسهم عند السفح. 

والمقال الأدبي قد يكون خياليا أو مثاليا أو واقعيا تبعا لميول الكاتب وأغراضه، ومزاجه الشخصي، أما المقال الصحفي فإنه ينبغي أن يكون عقليا واقعيا، يعتمد على المنطق والأسانيد الواقعية الحسية، دون تحليق في عالم الخيال أو المثل. فالأديب حر في اختيار الموضوع الذي يشاء، أما الصحفي فهو مقيد باختيار الموضوعات العامة التي تهم أكبر عدد ممكن من القراء، تدور حول مسائل ومشكلات تهم الدولة والمجتمع.
وجمال المقال الأدبي يتحقق في ذاته لأنه لا يعتمد كثيرا على العناصر الخارجية كالظروف والمناسبات، ذلك أن الأديب يلتمس الجمال الحقيقي في العبارة عن طريق البراعة الفنية في الصياغة والأداء، أما الصحفي فعلى العكس من ذلك ترتبط كتابته دائما بالجو الاجتماعي، والظروف السياسية المحيطة به، حتى إننا لا نكاد نفهم هذه المقالات الصحفية في العصور الماضية دون الإحاطة التامة بالبيئة الاجتماعية، وخصائص العصر الذي كتبت فيه. ومن المعروف كذلك أن الآداب الخالدة، والمؤلفات الكبرى لا تتطلب في دراستها مثل ذلك العناء الذي تتطلبه القطع الأدبية التي يكتبها أدباء الطبقة الثانية؛ لأن الآداب العظمى الرفيعة تتصل بعواطف الإنسان الثابتة، وترتبط بعلاقات بشرية خالدة، أما الصحافة فإنها تدور حول أمور اجتماعية ومناسبات معينة، لذلك كانت كتابات الطبقة الثانية في الأدب والصحافة أيضا ذخيرة هامة للمؤرخ وعالم الاجتماع، تتفوق في قيمتها الاجتماعية ودلالتها التاريخية على الآداب الإنسانية الرفيعة التي يهتم بها الأدباء والنقاد وعلماء الجمال.
فبينما نجد أن الأديب يكتب ما يشاء مهما كان الموضوع دقيقا أو خياليا أو غريبا، ويحاول أحيانا أن يكتشف ما خفي عن أنظار غيره من الأدباء مستعينا في ذلك بخلق الشخصيات الخيالية والمواقف الوهمية، إذا بالصحفي مقيد بالحاضر لا يستطيع الفرار منه، وما فيه من أحداث فهو لا يستطيع أن يرخي العنان للخيال كما يفعل الأديب، ولا يستطيع أن يهمل الشخصيات الواقعية من أجل شخصيات خيالية، ولا يستطيع أن يسبح في أجواء الماضي أو يطير في خيال المستقبل كما يفعل الأديب. فالصحفي مقيد بميول قرائه وسياسة صحيفته ورغبات المعلنين بل أوامر الحاكمين أيضا! 1.
والصحفي يعتمد على الواقع المحسوس، يشتق منه الدليل الذي يسوقه على صحة رأيه في مسألة من المسائل، ويتنكب طريق الأديب الذي يتسلق على كلام السابقين من مشاهير الشعر والحكمة والقصص. فالصحافة فن واقعي لصيق بالأحداث الجارية، والصحفي يشتق دليله من الحوادث، لا من بطون الكتب الأدبية أو الفلسفية، مع قدرته على الوصول إلى هذه الكتب والانتفاع بها والاستشهاد بكلام ذويها. وقد رأينا أن ديفو منشئ فن المقال الصحفي الإنجليزي، كان يجشم نفسه مصاعب الأسفار الطويلة في القرن الثامن عشر لجمع المعلومات والبيانات حتى تبنى مقالاته على الوقائع. ولا غرابة في ذلك، فإن عبقرية ديفو الواقعية هي التي حولت فن القصة نفسه من الرومانسية إلى الواقعية. وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي منشئ فن المقال الصحفي في مصر مغرما بالرحلات، كلفا بالمشاهدات التي سجلها في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وكذلك في مقالاته. 









مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید