المنشورات
لغة المقال الصحفي:
وكان لا بد أن يكون لفن المقال الصحفي لغته الخاصة، ذلك الأسلوب الذي وصفه ديفو بقوله: "إذا سألني سائل عن الأسلوب الذي أكتبه قلت إنه الذي إذا تحدثت به إلى خمسة آلاف شخص ممن يختلفون اختلافا عظيما في قواهم العقلية -عدا البله والمجانين- فإنهم جميعا يفهمون ما أقول".
ويقول عبد الله النديم في العدد الأول من صحيفة "التنكيت والتبكيت": إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجازات واستعارات، ولا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بفخامة لفظ وبلاغة عبارة، ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء، ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها، لا تلجئ إلى قاموس الفيروزآبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها، وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيتك كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، "ونديم" يسامرك بما تحب وتهوى، وما أقرب فهم النديم لفن المقال من فهم مونتاني وبيكون له!
لقد كان أسلوب الصحافة المصرية متأثرا بأسلوب الهمذاني في إيثار السجع القصير الفقرات وهي الطريقة التي سار عليها عبد الله فكري. غير أن معظم الصحف تردى أسلوب كتابتها إلى مستوى خفيض أذهل الشيخ محمد عبده ودفعه إلى إصلاحه. مثال ذلك هذا الخبر العادي الذي نشر في جريدة الأهرام سنة 1877: "في صبيحة يوم الثلثا من هذا الأسبوع شبت النار شبوبا مرهبا بمينا البصل في مخزن "شونة" من مخازن الوجيه جبرائيل أفندي مخلع الأفخم استيجار جناب الخواجا لورانس الذي دعى فيه كمية من القطن. لكن المخزن والقطن تحت دائرة السيكورتاه".
ويتحدث الشيخ محمد عبده عن أساليب الكتابة التي ثار عليها فيقول: كانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب: الأول ما كان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رث خبيث غير مفهوم ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته.. والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ما كان يراعى فيه السجع وإن كان باردا وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئا في الذوق بعيدا عن الفهم ثقيلا على السمع غير مؤد للمعنى المقصود ولا منطبق على آداب اللغة العربية. ثم ورد علينا في أخريات الأيام ضرب آخر من التعبير غريبا في بابه وهو ما جاءنا من الأقطار السورية في جريدتي الجنة والجنان المنشأتين بقلم المعلم بطرس البستاني.. وبه أنشئت جريدة الأهرام في مصر1.
أما الأسلوب الصحافة الذي ثار عليه الشيخ محمد عبده فقد كان مزعجا حقا، فإذا ما رجعنا إلى افتتاحية العدد الأول من الوقائع المصرية وجدنا أنه عربي متترك تغلظ فيه ركاكة الترجمة الحرفية إلى درجة يمجها الذوق العربي، فإذا تجولنا بين أعداد الوقائع في عهودها الأولى وجدناها حافلة بالأخطاء اللغوية والنحوية مع ركاكة التأليف وتعثر الفكرة، حتى جاء رفاعة الطهطاوي، فألقي بعض الضوء في هذا الجو المظلم، وحتى صحيفة روضة المدارس -التي كتبت للمثقفين- كان أسلوبها ثقيلا متلبكا ركيكا، كما رأينا هذا الأسلوب نفسه في صحيفة وادي النيل -أول صحيفة شعبية تصدر في مصر.
ومن أسلوب الأهرام ما جاء سنة 1878 تعليقا على السياسة الخارجية "مسألة شرقية وعقدة إبليسية عبث بها القلم زمنا فزادها تعقيدا فاعتيض عنها بالسيف. فيل يناظر سمكة وسمكة تباري فيلا. وكلاهما بعيدا مقرا.. ونحن بينهما هدف ترمي عليه أسهمهما فبئست حالنا"1.
والجريدة تقصد بالفيل روسيا، وتقصد بالسمكة إنجلترا، على نحو ما وصفهما بسمارك!
وقد رأينا أن الصحافة المصرية بدأت تتقدم أساليبها شيئا فشيئا منذ سنة 1870 حيث بدأ التعليم ينتشر، والحضارة تزدهر، والعمران يتسع، والأسفار تكثر، والحياة تنتفض انتفاضة ثورية جديدة نحو التحرر. وبدأت ثمرات المفكرين من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ثم أحمد لطفي السيد تؤتي أكلها، وكانت قمة الأسلوب الصحفي الحديث عند الشيخ علي يوسف في صحيفة المؤيد.
وقد وصف عبد الكريم سلمان -وهو المحرر الثاني للوقائع بعد الشيخ محمد عبده- طريقة التخلص من الأساليب العتيقة بقوله: "وأما من عود نفسه على الطريقة العتيقة "طريقة القافية والتسجيع" فليس له من دواء إلا مطالعة كتب التاريخ ووسائل الإنشاء "ومنها صحف الأخبار العربية الجيدة" فإنها حاسمة لدائه، نافعة في تقدمه وترقيه إلى أعلى الدرجات في هذا الفن الجليل".
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)