المنشورات
العلم والأدب والصحافة:
وخلاصة القول، أن الشيخ محمد عبده استطاع أن يكتشف فن المقال الصحفي، كما استطاع عبد الله النديم أن يقترب من الجماهير -ولكن من خلال العامية- أما علي يوسف فقد حقق بقلمه البداية الفاصلة بين فن المقال الصحفي وفن المقال الأدبي، فكان رائدا لمن أتوا بعده من كبار الصحفيين. مثال ذلك أن الشيخ علي يوسف -وهو صحفي بطبعه- اتخذ من مشاهدة البحر المتوسط موضوعا سياسيا تاريخيا. عالجه إذ ذاك بعقلية واقعية سياسية. وفي ذلك ما يدل على غلبة الصحافة على مزاج هذا الرجل قبل كل شيء. ولو أن كاتبا كالمويلحي أراد أن يتخذ من البحر موضوعا للكتابة لاتخذ موضوعا أدبيا خياليا خالصا، وذلك لغلبة المزاج الأدبي عليه. وقد كتب الشيخ علي يوسف هذه المقدمة وهو في عرض البحر المتوسط في طريقة إلى الأستانة وهو يقول فيها:
"إن للقطر المصري شأنا عظيما في مدينة البحر المتوسط الأولى، وفي تاريخ الديانات ووسائل انتشارها في أرجاء العالم، وفي عصور المنازعات والمنافسات بين ممالك الأدوار السابقة، وفي هذا العصر الحاضر سواء من جهة السياسة أو التجارة أو تأثير الدين".
إن الكاتب الصحفي ينفذ إلى المغزى والدلالة، في حين أن الكاتب الأدبي يهتم بالتعبير الجمالي والوصف ونقل المدركات المحسوسة. فالأديب يحاول أن ينقل لك البحر نفسه في مقاله الأدبي، أما الصحفي فلا يهمه من البحر إلا مغزاه الاجتماعي ودلالته السياسية وأهميته الاقتصادية. وقد وصف مصطفى كامل البحر1 فبدأ بتسع أبيات من الشعر، ثم أخذ يصف البحر وجلاله والباخرة وركابها وأسماها الجزيرة المتحركة والموج وهياجه والريح واضطرابها والجو وتقلبه.. فكانت صورة أدبية للبحر المتوسط تختلف عن تلك الصورة التي رسمها علي يوسف.
والفنان الأصيل لا يجرد الحقيقة كما يجردها الصحفي، ولكنه يدرك اللون ويعبر عن اللون، ويحيا في هذه الحياة خبرات معينة ليعبر عنها مباشرة ويقدمها في إطار جمالي دون أن يحولها إلى معان سياسية واجتماعية كما يفعل الصحفي. والفرق بين الأدب والصحافة أو بين المستوى الجمالي والمستوى الاجتماعي للغة، يقابله كذلك فروق أخرى بين كل من المستوى الأدبي والعملي والعلمي.
فجدول الماء مثلا يراه الأديب ويراه العالم. ولكن الأديب يصف شكله كما يحسه تماما ويتحدث عن ألوانه وألوان ما يحيط به من نبات وحيوان، ويصور خرير الماء أو هديره، وهدوء سطحه أو تموجاته وانكساراته على حالة الصخر، وتستطيع إذا قرأت كتابة فنية جميلة عن هذا الجدول أن تحس به، وترى أزهاره وتستمتع بضوء القمر الذي يغمره. أما العالم، حين ينظر إلى الجدول نفسه فإنه لا يرى فيه إلا جزئيات وذرات وبروتونات وإلكترونات، يراها تدور في أفلاكها المحددة ودوراتها المقدرة، ويعبر عن ذلك على أساس قوى الشد والجذب الأفقية والحركة العمودية ثم جاذبية الأرض وإشعاع الضوء وانكساره وتردد الصوت وقياسه وهكذا.. ويستحيل أن تعتبر هذه جميعا خبرات موضوعية عن جدول الماء، وإنما هي مسائل افتراضية قائمة على أسس علمية، ونظريات تصيب أو تخطئ تبعا لتطور العالم وتقدمه على توالي العصور والأزمان.
والأديب فنان يستعمل الألفاظ على النحو الذي يروقه أو يفضله على غيره، أما الصحفي فإنه يلتزم طريقة بعينها، قائمة على البساطة والوضوح، وتيسير الفهم على القارئ العادي، ولما كان الصحفي يعرض أفكارا وآراء، ويفسر اتجاهات ويشرح بيانات، فإن واجبه أن يتجنب أسلوب الأديب الذي يكون غالبا أسلوبا منمقا بالمحسنات اللفظية، موشى بالحيل البديعية، أو أن الصور البيانية تتلاحق فيه وفقا لذوق الكاتب وإدراكه لمعاني الجمال، الذي هو هدف المقال الأدبي. أما المقال الصحفي فلا يمكن أن يكون منمقا في لغته أو موشى في عباراته، ولا يجب أن تتراكم فيه الصور البيانية؛ لأنها ربما تعوق القارئ في فهمه لفكرة الكاتب في سرعة ووضوح ويسر.
فالصحفي يرى الأشياء من ناحية دلالتها العملية وتفسيرها الاجتماعي، حتى إن فوائد المدركات ونفعها أهم عنده من إدراكها لذاتها إدراكا فنيا خالصا كما يفعل الأديب والفنان. فالفرد العادي "ويمثله الصحفي بمستواه اللغوي العملي وبأسلوبه السريع" لا يرى الأشياء بعينه وإنما يدركها بعقله في سرعة من خلال ما تحدده له تربيته وخبرته وبيئته. أما الأديب أو الفنان فإنه يدرك الأشياء نقية خالصة. فقطعة الأرض الفضاء، مثلا، يرى فيها الفيلسوف ظواهر معينة، ويرى فيها العالم الجيولوجي مراحل وحقبا مرتبة ترتيبا زمنيا محددا، وقد يجد فيها المحارب فرصا للدفاع أو نقطة ارتكاز للهجوم، ويراها المزارع مجالا للزراعة والإنتاج والكسب. والشيء المدرك -في هذه الحالات جميعا- هو قطعة الأرض التي تتحول في غمرة الحياة الاجتماعية إلى مصالح مجردة ومنافع ذاتية. أما الأرض نفسها كشيء موضوعي له استطالته أو استدارته أو لونه أو جماله فإنها تنسى كخبرات في ذاتها، ويترجمها الإنسان العادي حالا إلى معان ويفسرها إلى أغراض. فالألوان مثلا لا ترى نقية خالصة؛ لأنها سرعان ما تستحيل إلى فوائد ودلالات: فاللون الأحمر بالنسبة للسائق لا يهمه كمدرك لوني، وإنما كمعنى للخطر. والزهرة الصفراء تعني الغيرة عند بعض الجماعات، ولكنها تدل على الأمل عند بعض القبائل الإسترالية. فاللون يكتسب معنى اجتماعيا ودلالة عملية بصرف النظر عن قيمته الموضوعية، كمدرك خالص.
وهكذا يطارد الماضي الحاضر، والمنفعة أو الدلالة تحل محل الحقيقة الموضوعية، والمغزى يمحو الواقع المحسوس، فلا يرى الشخص العادي في الأشياء إلا آمالا ورغبات وأماني ووعودا. وهذه تجعلنا نشاهد في المدركات التي نحسها طرزا ترتبط ارتباطا وثيقا بمصالحنا ومنافعنا الخاصة. أما الأشياء بشكلها الموضوعي الخالص المجرد، فلا شأن لنا بها، وإنما نرى مغزاها ومعناها، ونتائجها وآثارها، فنجد أنفسنا في النهاية غارقين في خضم ضخم من الخبرات عديمة الألوان. وما دام أسلوب المقال الصحفي هو الأسلوب العملي الاجتماعي، وما دامت طريقة الإدراك هي طريقة الرجل العادي، فإنه ينبغي على ذلك أن يكون المقال الصحفي عملي التعبير، واقعي الاتجاه.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
27 نوفمبر 2024
تعليقات (0)