المنشورات

موضوعات المقال الصحفي وأسلوبه:

ويلاحظ أن الصحافة المصرية كانت تقف موقف المعارض من السلطة الحاكمة، سواء السلطة الفعلية وهي الاحتلال أو السلطة الاسمية وهو الخديو. والحقيقة أن مقالات الصحف المعارضة تجد دائما صدى في نفوس القارئ لا تجده الصحف المؤيدة. وقد كان الشعب ينظر دائما إلى الحكومة نظرة الطير إلى الصائد لا نظرة الجيش إلى القائد، وذلك لأن أغلب الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر لم تكن وليدة إرداة الشعب، وبالتالي لم تكن تحس إحساسا صادقا بالأمة وآمالها وتعمل على تحقيقها وعلاجها.
ولم تكن كراهية الشعب للحكومة راجعة إلى انعدام الوطنية عند الحكام في كل حين، ولكن الاستعمال حال دون الحكومات الوطنية ذاتها وخدمة الشعب خدمة حقيقية وكسب مجتمعه أو على الأقل ثقته وتجنب عداوته، حتى لقد خلق هذا الإحساس عند صحف المعارضة في كثير من الأحيان نوعا من روح البطولة والاستشهاد في سبيل الشعب ضد الطغيان.
فلم يكن غريبا أن تروج صحافة المعارضة، وأن يقبل الناس على قراءة مقالاتها السياسية، خاصة وأن المعارضة كانت تتحدث دائما على المثل العليا والأهداف السامية والآمال المرجوة، فهي متنفس للشعب الذي يتلمس فيها العزاء الروحي. وقد فطنت الصحف المؤيدة للأحزاب إلى هذه الحقائق، فأخذت تقلل من الإسراف في المديح، والمبالغة في التأييد. ولقد فطنت بعض الصحف العالمية الكبرى إلى هذه الحقيقة وراعتها حتى في منهج دعايتها الحزبية مثل صحيفة الديلي هيرالد1 التي اجتمع مجلس إدارتها بعد إنشائها بفترة وجيزة، وبعد أن لاحظ تدهور الجريدة وانكماش رواجها نتيجة لإسرافها في الدعاية الحزبية فاتخذ قرارا يقضي بأن لا تتجاوز هذه الدعاية 10% من مساحة الجريدة.
وعلى أثر هذه القرار انتعشت الصحيفة وراجت واطرد نجاحها حتى أصبحت من أوسع الصحف انتشارا ومن أقواها أثرا في نشر الدعاية لحزب العمال في إنجلترا وفعلت جريدة المصري نفس الشيء عندما قللت من غلوائها في تأييد حزب الوفد، بل إنها ذهبت إلى حد انتقاده أحيانا أو على الأقل عدم تأييده تأييدا أعمى على طول الخط.
وقد ساعدت الصحافة المعارضة على ظهور فن المقال النزالي على الصعيد الأدبي أولا ثم الصعيد السياسي فيما بعد. فعلى صفحات "الجريدة" تناظر مصطفى صادق الرافعي عن الأدب القديم وطه حسين عن الأدب الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة الأسبوعية" ولعلها مستمرة حتى يومنا هذا. وتناظر العقاد مدافعا عن الأدب السكسوني ضد الأدب اللاتيني الذي دافع عنه طه حسين. وعلى الصعيد السياسي، كانت الحملات قاسية بل ضارية أحيانا، وبعض هذه الحملات أنقذ البلاد من نير الظلم، ونعني بذلك الحملة التي قادها علي يوسف ضد اللورد كرومر باسم مقالات "قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء". وعددها أربعة عشر مقالا، وأشهر منها مقالات مصطفى كامل ضد كرومر أيضا، وقد أطاحت به، وأبعدته عن الحكم في مصر.
ويخطئ من يظن أن المقال السياسي هو النوع الوحيد من المقالات الصحفية الذي تهتم به الصحافة، وإذا كان ذلك صحيحا بالنسبة للصحافة القديمة، فإن ذلك غير صحيح بالنسبة للصحافة الحديثة التي أصبحت موسوعية في اهتمامها ومقالاتها فهي تعنى بالاقتصاد والاجتماع والفن والأدب والرياضة والثقافة جميعا. وقد أصبح من الضروري أن يضم مجلس التحرير في الصحيفة نخبة من الخبراء والمتخصصين في السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتعليم والشئون الاجتماعية والعسكرية.
ولقد أصبح المقال الصحفي الحديث يمثل العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ولم يعد ذلك اللسان المتبرع بالمدح أو الذم وفقا للأهواء دون ما ضابط. والواقع أن المقال الصحفي أخذ يقترب كثيرا من الخبر والتحقيق الصحفي من حيث الموضوعية والدراسة، كما أن وظائف المقال أخذت تتضح في مجالات كثيرة أهمها الشرح والتفسير والتوجيه والإرشاد والتسلية والإمتاع. 

وقد سبق القول بأن الموهبة الصحفية هي موهبة التبسيط والتجسيد والبعد عن المفاهيم المجردة. فالصحافة الحديثة لا يمكن أن تتجاهل عصر الفضاء وعصر الذرة، ولكنها لا تستطيع كذلك أن تستخدم اصطلاحات العلم المجردة. ومع هذا وذاك ينبغي للمحرر العلمي إدراك أن القارئ لا يضيره أن يقرأ لفظا علميا غريبا على مسامعه إذا دعت الضرورة إلى استعماله في المقال، بشرط أن يبسطه ويقربه إلى الأفهام. "ولا ينبغي للمحرر في هذه الحالة أن يعتذر عن استعمال هذا اللفظ، ولا أن يحاول أن يشرحه شرحا علميا مستفيضا؛ فله -مثلا- أن يستخدم لفظ الوحدة الحرارية، ولكن ليس عليه أن يشرح هذه الوحدة الحرارية من الوجهة العلمية. بل يقول مثلا: إن ثلاث قطع من السكر، أو قطعة صغيرة من الزبد تولد مائة وستين وحدة إذا كان يقوم بعمل مجهد"1.
والخلاصة أن المقال الصحفي يشتق بموضوعاته من الحياة الواقعية، وكذلك يشتق لغته من نفس تلك الحياة الواقعية، وينبغي أن يكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم وثقافاتهم، وهذه اللغة هي اللغة القومية في صورتها الدارجة وليست صورتها العامية لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القراء والتقعر أو الغرابة في الأسلوب والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحال ما2. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید