المنشورات

فن العمود الصحفي:

نلاحظ في السنوات الأخيرة وجود الأعمدة المتعددة في الصحف الغربية عامة والصحف المصرية خاصة، وذلك لأن الصحف منذ انتشارها حتى أوائل القرن الحالي كانت تعتمد على المقال الافتتاحي، الذي كان طويلا في البداية ثم أخذ يقصر شيئا فشيئا، كما كانت موضوعات المقال الافتتاحي تدول حول موضوعات جادة في أغلب الأحيان، وإن كانت تتناول أحيانا بعض الموضوعات الطريفة غير أن الصحافة المصرية قد أخذت عن الصحافة الغريبة فن العمود الصحفي، وهو الفن الذي عرفته أوروبا وأمريكا بعد انتشار الصحافة الشعبية أو الصحافة العامة. فقد كانت أوروبا مقسمة في مجتمعاتها إلى طبقتين اجتماعيتين: طبقة عليا وطبقة دنيا تمثل عامة الشعب، وكانت الطبقة الأولى تسيطر على شئون السياسة والاقتصاد. وكذلك على فنون الأدب والمعرفة، ولم تكن للطبقة الشعبية أية إرادة. وقد رأينا أن الصحافة في بدايتها كانت تهتم بشئون الطبقة العليا، وترعى مصالحها، ولا يلقي بالا للطبقات الشعبية، وذلك في مرحلة الصحافة الرسمية، والصحافة الحزبية.
حتى إذا تطور المجتمع بعد الانقلاب الصناعي، وظهور الطبقة الوسطى، ثم طبقات العمال والفلاحين الذين اعترف بقيمتهم، استلزم الأمر ظهور أفكار اجتماعية وظواهر نفسية ترمي إلى تكتل الشعب في فئات متعددة كالنقابات والهيئات والفئات. لم تعد الرابطة التي تربط المجتمع رابطة تسلط طبقة عليا على طبقة دنيا. بل ظهرت روابط متعددة ثقافية وفنية وعمالية وروحية وما إلى ذلك من روابط اجتماعية ظهرت بظهور الترابط الاجتماعي متعدد الوجوه. لذلك بدأت الصحافة تتجاوب مع الطبقات الجديدة في المجتمعات المختلفة، وقد ساعد على ذلك ظهور ما يسمى بالصحافة المستقلة، التي ابتعدت عن السياسات الحزبية، وعن التملق الرسمي للسلطة، وأخذت تعتمد على الإعلان والتوزيع كموردين أساسيين لها. وفي تلك الفترة بدأ اهتمام الناس بالرياضة والفن والأدب الشعبي وغيرها من الموضوعات، كما أخذ المجتمع يخدم المرأة، ويقدر الطفل ويعطي له مكانته الطبيعية باعتباره رجل الغد وقائد المستقبل.
عندئذ تغير قراء الجريدة، وتعددت أذواقهم ومشاربهم ومستوياتهم، ولم يعد أبناء الطبقة العليا وحدهم قراء الصحف، بل أصبح الشعب بفئاته المختلفة -طبقيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا- هم قراء الصحف. وهكذا دخلت الصحافة حياة الناس، وتحولت من مجرد معلم إلى صديق، وكان لزاما عليها أن تتطور وأن تغير من أسلوب تحريرها واختيار موضوعاتها، وبدأت المقالات التي تهتم بمصالح الأفراد والجماعات المتعددة المذاهب والاتجاهات والأهداف. فنشأ فن المقال الافتتاحي القصير ثم فن العمود الذي أخذناه عن الصحافة الغربية. 

فقد نشأت الأعمدة أولا في أمريكا سنة 1823، بعد استقرار الأحوال في والولايات المتحدة، فأخذت كل ولاية تعنى بمشاكلها الخاصة. وقد وجدت الأعمدة صدى لدى القراء، وعرفت في إنجلترا وفرنسا بعد ظهور الصحافة الشعبية زهيدة الثمن في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الأعمدة تتوخى الحديث إلى القارئ كصديق، وبلغ كتاب الأعمدة في أمريكا سبعة آلاف كاتب. كما ظهرت وكالات متخصصة في نشر الأعمدة مثل وكالات الأنباء. وقد بدأ هذا النوع الجديد من المؤسسات في الظهور بأمريكا منذ الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1861، وهي تزيد الآن عن مائتين وخمسين مؤسسة1. ومن أشهر هذه المؤسسات مؤسسة ماكلور2، التي كانت في أول أمرها توزع حوالي خمسة آلاف كلمة في الأسبوع، ثم لم تلبث أن بلغ ما توزعه ثلاثين ألف كلمة في الأسبوع.
وهناك مؤسسة بوك الصحفية التي كانت تنشر العمود الأسبوعي للكاتب الأمريكي هنري وارد بيشر تعليقا على الأخبار. وقد رأت مؤسسة بوك أن خير وسيلة لجذب النساء لمطالعة العمود الصحفي أن تنشر عمودا خاصا بالأطفال ضمن الأعمدة التي تنشرها، وتبيع حق نشرها لجميع الصحف التي تطلب ذلك. ويؤخذ مما تقدم أن هناك مجالا إنسانيا كبيرا تسبح فيه الأعمدة الصحفية، وأن العمود الصحفي الإنساني هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم. ونحن نعلم أن الصحافة عمل اجتماعي محلي النزعة، ولكن العمود الصحفي بطابعه الإنساني يستطيع أن يصل بالصحافة إلى مرتبة الأدب؛ لأنه يتجه دائما إلى النفس البشرية، وإلى الاهتمامات العامة. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید