المنشورات

شكل الصحيفة المصرية وإخراجها:

وقد تطور الصحفي مصر تطورا كبيرا منذ نشأة الصحافة حتى الآن. فكانت الوقائع المصرية -مثلا- في بدء صدورها لا تحتوي إلا على عمودين فقط في صفحتها الأولى، وكانت تصدر في الحجم النصفي، وتخلو من العناوين خلوا تاما، فإذا نشر خبر من الأخبار فإنه يسرد سردا كالقصة أو المقامة في أسلوب مسجوع بلا عنوان. وهذا مثل من أخبار الصفحة الأولى بالوقائع المصرية:
"قد ذكر في طي ما نشر من صحائف الوقائع المصرية، المنمرة فيما تقدم ينمرة ستمائة وأربعة، أن حضرة أفندينا العظيم الجاه، بلغه الله تعالى ما يترجاه، قد حل بالأقاليم البحرية ركابه العالي، وشرفها ستة وخمسين يوما على التوالي، وأعطى أهلها إعانة اثنين وأربعين ألف كيس عدا، وقواهم بالأدوات اللازمة لتكثير الزراعات، وغمرهم بعض مكارمه الجاري، حتى عمروا جميع الصحاري ... ". 

"ولما حان توريد أصناف المزروعات من ذلك الموسم، التي هي عبارة عن القطن والأرز والسمسم، وكان قد آن الوقت الذي يتوجه فيه جنابه إلى أقاليم الوجه المذكور، لترتيب المواد الشتوية وغيرها من سائر الأمور، حرك من الإسكندرية ركاب جواده السمند، صبيحة يوم الخميس التاسع عشر من رجب الفرد، أحد شهور السنة العظيمة الميمنة، وسار على رجع السرعة، حتى نزل يقصر حضرة محرم بيك الكائن بشاطيء الترعة، وبعد أن جلس فيه جلسة خفيفة، انتقل منه إلى قنحته الشريفة، وما زال سائرا بعد ذلك إلى أن وصل ... وبات هناك ... ".
"وحيث إن التراخي الحاصل من محيي الدين أفندي كان سببا لعزله عزل ولقب إبراهيم أغا بدلا منه في محله، ولقن المدير إليه من الوصايا".
وهكذا كانت تنشر الأخبار دون ترتيب لعناصر المهمة، بل إن أهم عنصر في الخبر -وهو عزل الموظف وتعيين بدله- وقد جاء في نهاية الخبر، ويلاحظ أن السجع المتكلف هو طريقة التحرير العادية، ولم يكن يفصل بين الأخبار إلا فراغ أبيض، وحروف الطباعة كلها من نوع واحد يصل إلى بنط 24، أما العناوين فقد كانت غير موجودة بالمرة ثم أخذت تتخذ شكلا عاما غير مخصص مثل: أخبار داخلية وأخبار خارجية وأدبيات ونسائيات والأقاليم وتلغرافات عمومية. وهكذا كانت العناوين كأسماء فصول الكتب أو أبواب المؤلفات دون تخصيص للمضمون خلافا لما تفعل الصحف الحديثة حين تبرز في العنوان ملخصا دالا على الخبر أو الموضوع.
ثم أخذت الصحف تبتعد تدريجيا عن إخراج الكتب عاما بعد عام، وأخذت الأعمدة تضيق وتتعدد. فكانت الأهرام مثلا تظهر في ثلاثة أعمدة عند بدء صدورها، ثم تطورت بعد ذلك وتعددت أعمدتها فأصبحت أربعة ثم خمسة سنة 1886، ثم ستة في سنة 1890، ثم سبعة في سنة 1897 حتى وصلت إلى ثمانية أعمدة، وإن كانت قد عادت مرة أخرى إلى نظام السبعة سنة 1931.
ووتتجه الصحافة الحديثة إلى النمطية في شكلها وحجمها. فهناك الصحف العادية وهي ذات نمط واحد فيبلغ طولها نحو 56 سم وغرضها نحو 42 سم، أما الصحف النصفية فيبلغ طولها نحو 42 سم وعرضها نحو 28 سم. وهناك صحف يتوسط حجمها بين الحجم العادي والحجم النصفي مثل صحيفة "لوموند"1 الفرنسية. وقد أصبح عدد الأعمدة في الصحيفة العادية ثمانية أما في الصحيفة النصفية فيبلغ عدد الأعمدة خمسة، ولكن الصحافة النصفية تتحرر كثيرا في إخراجها وفي عدد أعمدتها، وفي استخدام الصور والعناوين. ويذهب البعض إلى أن الحجم النصفي للصحيفة قد جاء نتيجة لحاجة سكان المدن وإلى قراءة الصحف في السيارات العامة ومركبات الترام عند الذهاب إلى أعمالهم أو العودة منها، مما يتطلب حجما أصغر في هذه المواصلات المزدحمة، ولكن لا شك أن الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 ثم الحرب العالمية الثانية سنة 1939، مع هبوط عدد الإعلانات، وعدم وتوفر الورق وغلاء أسعاره، وقلة عدد الأيدي العاملة بسبب التجنيد كانت كلها عوامل هامة لانتشار الصحافة النصفية أو صحافة التابلويد2، التي كانت قد بدأت في الظهور في لندن سنة 1904 على يد نورثكليف في صحيفة الديلي ميرور، كما ظهرت في أمريكا في صيف سنة 1919 بمدينة نيويورك، وذلك بصدور صحيفة ديلي نيوز النصفية.
وكما توحدت أحجام الصحف وأشكالها، توحدت أيضا مساحات الأعمدة، وهي الوحدات المكونة للصحيفة، فأصبح اتساع العمود ثابتا بمقدار 11.5 كور تقريبا. ويرجع ذلك إلى تعميم أنواع الآلات المستخدمة في الطباعة وقطع الغيار، وأنواع الورق المصنوع آليا أما بطريقة الطحن الميكانيكي أو المعالجة الكيميائية. وفي أوروبا وأمريكا ظهرت شركات توزع مقالات وموضوعات وتحقيقات مصورة ثابتة بالنسبة لعدد كبير من الصحف، وخاصة الصحف الإقليمية، كما كانت وكالات الإعلان تفعل نفس الشيء بالنسبة للإعلانات الموحدة التي توزع بشكل ثابت على عدد كبير من الصحف، فضلا عن توزيع مواد صحفية بشكل صفحات جاهزة مضغوطة على الصفحة الكرتونية "الفلان"1 التي تعد للصب والطبع فورا. وهكذا دخل الفن الصحفي في طور الإنتاج الضخم المموحد، شأنه شأن الإنتاج الاقتصادي في معظم الشركات الكبرى.
وقد كانت الصحف العربية الصادرة في العصر العثماني كالوقائع المصرية والزوراء العراقية وغيرهما نصفية الحجم، ولكن ذلك لم يكن سوى مظهر من مظاهر السذاجة في الإخراج، ثم جاءت الصحف الشعبية مقلدة لهذا الحجم النصفي في بادئ الأمر، وأخذت تتطور بعد ذلك حتى وصلت إلى الحجم العادي. وهناك بعض الصحف النصفية التي صدرت في فترة ما بين الحربين العالميتين مثل "السياسة الأسبوعية" التي ظهرت سنة 1926، و"الصرخة" الصادرة سنة 1933 عن حزب مصر الفتاة، الذي أصدر أيضا "الضياء" و"الثغر" و"مصر الفتاة" -وكلها صحف نصفية. وهناك أيضا "آخر لحظة" التي كانت ملحقا لمجلة آخر ساعة، وكانت ذات حجم نصفي منذ ظهورها سنة 1949 ثم استقلت عن آخر ساعة وكانت تصدر مرتين فثلاث أسبوعيا.
ويبدو أن الأحزاب السياسية قد اختارت هذا الحجم النصفي. فظهرت "الاشتراكية" عن حزب مصر الفتاة الذي تحول إلى الحزب الاشتراكي، و"اللواء الجديد" عن الحزب الوطني سنة 1951، و"الدعوة" عن الإخوان المسلمين، ويلاحظ أن الصحف الجامعية كانت تفضل هذا الحجم النصفي أيضا مثل صحيفة "صوت الجامعة" التي أصدرها قسم الصحافة بجامعة القاهرة سنة 1956 وكتب مقالها الافتتاحي الأول الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأخذت الكليات الجامعية الأخرى تقلد قسم الصحافة في نفس الاتجاه إلى الحجم النصفي.
ومن الطريف أن بعض الصحف قد بالغ في كبر الحجم في وقت رخص فيه الورق، كصحيفة الأهرام التي بلغ طول صفحتها 70 سم وعرضها 52 سم، وذلك سنة 1897. وذهبت بعض الصحف الأجنبية إلى حد المبالغة في الحجم مثل صحيفة "جورنال أوف كومرس"2 الأمريكية التي كانت تصدر سنة 1853 بمدينة نيويورك، وقد بلغ طول صفحاتها 125 سم وعرضها 87.5 سم، واستحقت هذه الصحيفة وأمثالها أن يطلق عليها اسم صحافة البطاطين3. وقد وصل عدد الأعمدة في هذه الصحف إلى أكثر من أحد عشر عمودا. 









مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید