المنشورات

فن إخراج العناوين:

وقد رأينا أن الصحف الأولى لم تكن تستخدم العناوين إلا قليلا، كما كانت العناوين عامة وصغيرة على عمود واحد أو عمودين. غير أن تطور الصحافة نحو الشعبية والبساطة وسعة الانتشار جعل العناوين سمة ضرورية للصحافة الحديثة التي تعمل على اجتذاب القارئ وتشويقه وتثقيفه وإعلامه. فلم يعد العنوان صغيرا عاما بل أصبح عنوانا كبير الحجم موجز العبارة دال المعنى. وقد كانت العناوين قديما تجمع من ذات حروف المتن مع إظهارها بقوسين، أو جمعها بحروف أكبر قليلا من حروف المتن لإبرازها. أما الصحافة الحديثة فقد أخذت تتفنن في أشكال العناوين، وطرز حروفها، وكبر حجمها، وتنوع ألوانها، بل وتعدد أسطرها؛ إذ أصبح للموضوع الكبير عدة عناوين رئيسية قبل المقدمة، وهذا فضلا عن العناوين الفاصلة بين الفقرات. وعندما تتعدد أسطر العنوان الرئيسي، فإن المخرج الصحفي يهتم بتنويع الشكل وطراز الحروف أو الخط.
فقد تتوالى أسطر العنوان لتشكل في مجموعها مثلثا قاعدته هي السطر الأعلى ومركزه السطر الثالث أو الرابع من العنوان. وقد يتخذ العنوان شكل المستطيل فتتابع الأسطر مع التنوع في الحجم واللون وزيادة السطر الأول فقط في الطول زيادة إلى اليمين أو اليسار من أجل لفت الأنظار. وهناك ترتيب أخر للعناوين يجعلها تشبه درج السلم لأن كل سطر يدخل قليلا داخل الصفحة حتى تبدو النهايات والبدايات بشكل متدرج وقد تكون أسطر العنوان الرئيسي موحدة في بدايتها أو في نهايتها، والمرجع في ذلك كله إلى ذوق المخرج الصحفي وخبرته ونوع الصحيفة وطبيعة القراء.
ولا شك أن أشكال العناوين وطرز حروفها وطريقة إخراجها تسهم إسهاما كبيرا في تحديد شخصية الصحيفة المتميزة. ولذلك دأبت الصحف الكبرى على قوائم ثابتة بمثابة "كتالوجات" لأنواع العناوين وأشكالها وطرز حروفها، ولا يسمح للمخرج الصحفي بالتصرف إلا في حدودها، محافظة على شخصية الصحيفة.
ولكل صحيفة سياستها الإخراجية الخاصة التي تقوم على أساسها عملية التصحيف أو توزيع المواد المختلفة على الصفحات. فالصفحة الأولى من جريدة التيمس الإنجليزية كانت تحتوي على الإعلانات الصغيرة بدون صور، حتى حررها اللورد طومسون من هذا التقليد المحافظ الموغل في القدم. وقديما كانت الصحف الإنجليزية تتبع نفس الطريقة فلا تنشر في الصفحتين الأولى والأخيرة إلا الإعلانات. ولعل السر في ذلك أن الطباعة كانت بدائية عند ظهورها، ولذلك كانت الإعلانات تطبع أولا في الصفحة الأولى والصفحة الرابعة المقابلة لها لأنهما تتعرضان للاتساخ بالخبر، وتخصص الصفحتان الداخليتان النظيفتان للأخبار والمقالات. ورغم تقدم الطباعة، ظلت الصحف المحافظة متمسكة بتقاليدها القديمة محافظة على شخصيتها.
وقد اتضح للورد طومسون -كما اتضح لغيره من أصحاب الصحف- أن العناوين الرئيسية والفرعية أساسية في الصفحة الأولى، بل والصفحات الداخلية أيضا، لجذب أنظار القراء وإثارة رغبتهم في الشراء، وإغرائهم بالاطلاع على أهم الأخبار والموضوعات. وقد وجد خبراء الصحافة أن العنوان الجيد هو الذي يدل على الخبر كله أو على الأقل يصور أبرز أجزائه، كما أنه يرد على أكثر الاستفهامات الستة التي سبقت الإشارة إليها في باب الخبر الصحفي. ويكتب العنوان بأسلوب شبه برقى بعد حذف الكلمات الزائدة وحروف الجر والعطف ما أمكن ذلك، بشرط أن يؤلف العنوان جملة تامة. والعنوان الصحفي يمتاز بالقوة والجاذبية والوضوح والتركيز والإبانة، مع الحذر من المبالغة أو عدم مطابقة العنوان لمتن الخبر أو الموضوع.
ويراعي المخرج الصحفي ضرورة التناسب بين طول العنوان وعدد كلماته وخاصة عند تعدد الأسطر، فلا يكون أحد الأسطر مزدحما بالكلمات والآخر قليل العدد منها. ولو أن الصحافة تستخدم أحيانا ألفاظا أشبه ما تكون بالصياح أو الصراخ مثل: الحرب أو المعركة أو الدم أو الانتقام وكثيرا ما تكون هذه العناوين باللون الأحمر على عرض الصفحة الأولى. وتدأب الصحف المثيرة أحيانا على نشر عناوين غامضة تصلح لكل شيء مثل: أسرار الموقف السياسي، وأسباب التدهور الاقتصادي. ولكن الحقيقة أن العنوان الجيد هو العنوان الدال المكون من جمل تامة الفائدة، مع مراعاة عدم التكرار في المعلومات الواردة في العنوان؛ لأن كل سطر، بل وكل كلمة ينبغي أن تكون ذات وظيفة أساسية، وإلا فإنه يجب الاستغناء عنها.
ويتجنب الصحفيون العناوين الغامضة أو المضطربة؛ لأن الوضوح من أهم سمات الفن الصحفي، والتباس المعاني أخطر ما ينزلق إليه هذا الفن. وغني عن البيان أو الموضوع الجاد يتطلب عنوانا جادا، في حين أن الموضوع الخفيف أو الطريف يتطلب عنوانا خفيفا طريفا. وينأى الصحفي بطبيعته عن استخدام اللغة العامية في العناوين، وإن كان لا يمانع في استخدام لفظ أو عدة ألفاظ عامية في المتن إذا تطلب الموضوع ذلك، وخاصة عند الاقتباس أو الحوار. وكلما كان العنوان موجزا، كان أفضل من العنوان الطويل الممل. ويراعي المخرج الصحفي عدم قطع كلمات السطر في العنوان واستكمالها في السطر التالي؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغموض واللبس أحيانا. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید