المنشورات

أجناس الحروف الإفرنجية:

غير أن المخرج الصحفي المصري مضطر لذلك لما يشعر به من أزمة تضايقه كثيرا، نظرا للفقر المدقع في تنوع أشكال الحروف الطباعية وأنواعها. فبينما يتمتع المخرج الصحفي في أوروبا وأمريكا بثروة طائلة من حروف الطباعة التي تتعدد أشكالها حتى تربو على الألف، وتتنوع هذه الحروف من حيث درجات السواد أو ما يسميه الطابعون بالحروف البيضاء والسوداء فتبلغ أربع درجات في حروف الطباعة الأوروبية، نجد أن المخرج العربي محصور في درجتين فقط. ثم هناك التنوع من حيث عرض الحرف ودرجة انتشاره على السطر. فإذا كانت مشكلة المخرج الصحفي في أوروبا وأمريكا هي حيرته في الاختيار من بين مئات الأشكال والألوان، فإن مشكلة المخرج الصحفي في الشرق العربي هي الفقر المدقع في تنوع أشكال الحروف وأنواعها، سواء كان ذلك بالنسبة للعناوين أو المقدمات أو صلب الموضوعات.
ولن يقيل المخرج الصحفي العربي من عثرته إلا الاهتمام بإثراء حروف الطباعة العربية. وأمامنا في تراثنا العربي المجيد ألوان متعددة من الخطوط الرائعة كالرقعة والنسخ والثلث والكوفي والفارسي والديواني والمزخرف والحر وغيرها. وأن زيادة واحدة قصيرة لدار الكتب المصرية لتعطينا فكرة كاملة مقنعة عن ثراء الخط العربي بأنواعه المختلفة الجميلة، وتعدد أشكاله وقواعده. وقد اعترفت الدول الأوروبية بجمال هذا الخط فأقامت له بعض المعارض الفنية في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية. فما علينا إلا أن نختار وننقح ونلائم بين هذا الفن الجميل والفن الطباعي التطبيقي لكي نظفر بأجمل الخطوط وأرشقها.
ومخرج الصحف أو الكتب في أوروبا وأمريكا يعرف أن حروف الطباعة المتعددة المتنوعة تخدم أغراضه المختلفة؛ لأن كل نوع من الحروف يتناسب مع موضوع بعينه، فيزيد التعبير قوة وجمالا، ويلبس المضمون شكلا فصيحا مبينا. فحروف الطباعة تتدرج من الخشونة والقوة إلى الرشاقة والرقة في التعبير. والجنس الروماني القديم يمتاز بالخفة والرشاقة الزخرفية التي تجعله يتلاءم تماما مع الموضوعات النسائية، وأسرة الحروف المشهورة باسم جراموند1 على وجه الخصوص -وهي فرع من الجنس الروماني القديم- تعبر عن الأنوثة والخفة والجمال، فتستعمل بنجاح تعبيري فائق في إعلانات أزياء النساء وأدوات التجميل، وصفحات المرأة في الصحف والمجلات النسائية بوجه عام.
والواقع أن حروف الطباعة تساير الأذواق المختلفة باختلاف الأمم والأزمان. وتنقسم حروف الطباعة الإفرنجية إلى خمسة أجناس رئيسية هي: الجنس القوطي القديم2 والجنس الروماني3 والجنس المائل4 والجنس الخطي والنسخ5 والجنس الفوطي الحديث6. ولكل جنس من هذه الأجناس صفاته الخاصة المميزة عن الجنس الآخر. وحروف الجنس القوطي القديم تعد أقدم أنواع حروف الطباعة جميعا، وقد استخدمها جوتنبرج في طباعة إنجيله المشهور، ويمتاز هذا النوع بزخرفته الدينية، فكان يحاكي حروف المخطوطات القديمة التي ألفها الناس قبل اختراع الطباعة، ولذلك تقبله المثقفون والمحافظون الذين نظروا إلى فن الطباعة في بدايته على أنه فن حوشي شعبي لا يليق بالسادة.
وينم الحرف القوطي القديم عن العراقة والوقار والجمال، وقد فتن الطابع الإنجليزي كاكستون به، واستخدمه الطابعون في الكتب الدينية والدعوات للاحتفالات الرسمية وحفلات الزواج وحفلات تتويج الملوك والرؤساء. 

واشتهر الجنس الروماني في إيطاليا قبيل نهاية القرن الخامس عشر، وكان مبتدعة نيكولاس جنسون1 من رواد الطباعة الأوائل الذين قدموا للحركة الإنسانية وعصر النهضة حروفهم الجديدة التي كانت أيسر في القراءة وألطف في الشكل وأكثر جاذبية في تباين عناصرها بين الأصول الثقيلة والحروف المسننة الخفيفة التي تكون ظلالا بديعة الشكل. وقد جاء الطابع الإيطالي بودوني2 بتطوير آخر للحروف الروماني، فقوى من التباين بين الأصول والأسنان.
وابتكر مانوتيوس3 الحرف المائل سنة 1501 فغير قاعدة الحروف العمودية إلى الحروف المائلة وهي تستخدم الآن لإبراز الكلمات أو تأكيد العبارات، وهكذا أصبح استخدامه مقصورا على لفت النظر والإبراز والتباين. أما الحرف الخطي والنسخ فهو يماثل خطوط النساخ في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو أقرب الخطوط جميعا إلى الخط اليدوي، ولذلك فإنه يستعمل في المطبوعات ذات الصبغة الشخصية كالدعوات إلى حفلات عيد الميلاد والزواج والحفلات الخاصة. وتستعمله الصحف في الإعلانات الخاصة بأزياء النساء والروائح العطرية ومنتجات التجميل.
أما الجنس الخامس من حروف الطباعة الأوروبية وأحدثها تاريخيا فهو القوطي الحديث، الذي لا يحتوي على نهايات دقيقة مدببة، فيسمى بالحرف عديم الأسنان4. ومن مميزاته انعدام التدرج بين الطلال الخفيفة والثقيلة بعكس الحرف الروماني. ويعد الحرف القوطي الحديث انعكاسا أمينا للحضارة الحديثة في الفن والهندسة، وهي الحضارة التي تؤمن بأن الوظيفة هي التي ينبغي أن تحدد الشكل5 أو الصياغة في الفنون، ويبدو ذلك واضحا في هندسة المعمار الخاصة بالمستشفيات والمدارس والأندية والصحف. فوظيفة كل من هذه المؤسسات تحدد الخصائص المعمارية والمميزات البنائية التي تقام على أسسها صروح الأبنية الحديثة، وحتى أجزاء البناء الواحد يتخذ كل منها شكله المنبثق من وظيفته المعمارية كدعائم حمل الأسقف وغير ذلك.
وتمتاز الحروف القوطية الحديثة بالبساطة المتناهية وسهولة القراءة وجاذبية الشكل ولو أنها رتيبة. وتستخدم الصحف الشعبية هذه الحروف بكثرة، وخاصة في عناوينها المنتشرة والرئيسية، كما تستعمل في الإعلانات الضخمة والملصقات التجارية وينم هذا الجنس من الحروف عن القوة والخشونة ويمتاز من الناحية الفنية بالقدرة على المقاومة والاحتمال، ولعل مرجع ذلك إلى انعدام الأسنان الرفيعة التي تتعرض للكسر بسرعة.
وقد ابتكر الطابعون والفنانون نوعا من الحروف القوطية ذات الأسنان السميكة بين سنة 1815 وسنة 1840، وأطلقوا عليه أسماء الكرنك والقاهرة وممفيس1 وغيرها من الأسماء المصرية القديمة، فكما أن التمثال الفرعوني يمتاز بالقوة والبقاء والقدرة على الخلود ومقاومة عوامل الطبيعة المختلفة، فإن هذا الحرف هو الآخر يمتاز بالصلابة ومقاومة ضغط آلات الكبس والطبع الحديثة. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید