المنشورات

الأسس الصحفية والنفسية لفن الإخراج الصحفي:

ويقوم فن الإخراج الصحفي على أسس صحفية ونفسية وفسيولوجية وفنية. أما الأسس الصحفية فتتصل بتقويم الأخبار والموضوعات ودراسة أساليبها، وتقدير القيمة النفسية لها. وقد تعرضنا لهذه الدراسة في الأبواب السابقة من هذا الباب. وفي الصحف الأجنبية خبراء في تذوق الأخبار2 تلقى على كواهلهم هذه المسئوليات، كما يقوم بهذه المهمة سكرتير التحرير المركزي، ولكن المخرج الصحفي لا بد وأن يكون قديرا هو الآخر في فن هذا الفن لأن العلاقة بين فن التحرير وفن الإخراج كالعلاقة بين المضمون والشكل في مختلف الفنون.
وقد رأينا في الأبواب السابقة أن الفن الصحفي يعتمد على العلاقة الوثيقة بين الصحيفة والقراء، وأن للخبر مقاييس معروفة كالحداثة والقرب والضخامة والدلالة وسياسة الصحيفة واتجاهات الرأي العام وغيرها. والصحافة الشعبية الحديثة لا تفرض الأخبار على قرائها فرضا، ولكنها تدرس ميولهم دراسة دقيقة، وتنشر الموضوعات الصحفية التي تدور حول محاور الميول الإنسانية. وقد لاحظ الباحثون الصحفيون أن محاور الميول تتطور من عصر إلى آخر، فقد ازداد شغف الناس مثلا بالعلوم والفنون والمخترعات الحديثة، وأصبحت أنباء الفضاء والذرة والأخبار الاقتصادية والسياسية تحتل مكانة أعظم مما كانت تحتله من قبل. وبعد أن كان القارئ من قبل يمل قراءة الموضوعات الاقتصادية والسياسية، نجده اليوم شديد الاهتمام بالأخبار الخارجية والعلاقات الدولية ومعاني الإجراءات الاقتصادية كتخفيض قيمة الدولار أو إنشاء البنوك الدولية وغيرها. على أن بعض الصحف تظن واهمة أن القراء يهتمون بحوادث القتل والجريمة والأخبار التافهة الغريبة أكثر من اهتمامهم بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها، ولكن هذا الوهم يتبدد يوما بعد يوم.
وليس معنى ذلك أن تنشر الصحف موضوعات علمية جافة أشبه بالرسائل العلمية أو تقارير اقتصادية وسياسية معقدة كتلك التي تكتب للخبراء والمسئولين، وإنما الفن الصحفي الحقيقي -كما رأينا من قبل- هو القدرة على تحويل تلك الموضوعات الهامة ذات المغزى الحقيقي، وذات الدلالة والخطر إلى موضوعات صحيفة جذابة، سهلة القراءة ومحببة إلى النفوس، ولا يتأتى ذلك -بطبيعة الحال- إلا بتضافر فنون الإخراج والتحرير والتصوير جميعا.
وقد كان من الطبيعي أن تتأثر الصحافة بعلم النفس الحديث وتنتفع بأبحاثه ونتائجه كما تأثرت به سائر العلوم والفنون الأخرى. ولا شك أن الفن الصحفي يعتمد على أسس نفسية ودراسات تجريبية في هذا المضمار. ومن أهم العوامل النفسية المؤثرة في الصحافة: السن واتجاهات الرأي وأذواق القراء وعقلية الجماهير وثقافتهم والعادات القرائية ودور الألوان في التأثير والتبسيط والإقناع.
فالشيوخ مثلا يفضلون الإخراج التقليدي العمودي المحافظ، في حين أن الشباب يميلون إلى الإخراج الأفقي الانسيابي، المدعم بالصور والألوان، وهذه في نظر الشيوخ بدع لا داعي لها، ويعلق أرنولد على اتجاه الصحافة المحافظة إلى الهجوم على التليفزيون والسينما واعتبارهما عوامل هدم الصحافة قائلا إنه بدلا من الشكوى والشتم والتهجم ينبغي على الصحافة أن تدرس كيف تجتذب الشباب والأطفال بالفن الصحفي الناجح، الذي لا يقوم على تقليد السينما أو محاكاة التليفزيون، وإنما بإنشاء فن صحفي مستقل قائم بذاته له القدرة على التأثير الإيجابي الفعال.
وقد درجت الصحافة الحديثة على سبر غور الرأي العام وقياسه ومعرفة اتجاهاته نحو الموضوعات المختلفة التي تنشر، وينبغي أن تتكرر عملية قياس اتجاهات الرأي العام وتعديل السياسة الإخراجية بناء عليها. كما تختلف أذواق القراء وفقا لأعمارهم وفئاتهم وثقافاتهم، فصحيفة الطبقة العامة تختلف عن صحيفة الفلاحين وتلك تختلف عن صحيفة الأطباء أو القضاة أو المثقفين. فقد تستخدم العناوين الكبيرة والصور الإيضاحية والرسوم والنماذج في صحيفة العمال أو الفلاحين، ولكن يمكن الإقلال من هذه العناصر في صحف المثقفين.
ويعنى الإخراج الصحفي بمعرفة عادات الناس القرائية، فهناك فريق يكتفي بالمرور السريع على العناوين عامة ثم يتخير منها ما يهمه ليقرأه بإمعان، وهناك فريق آخر يطلع على المقدمات ويكتفي بها دون صلب الأخبار، وفريق ثالث يهتم بالنواحي الأدبية أو السياسية أو التجارية أو الفنية وهكذا.. فعلى قسم الأبحاث في الصحيفة أن يوالي دراسة عادات القراء، وتسجيل أي تغيير يطرأ عليها، حتى يتمكن المخرج الصحفي من تعديل خطته وفقا للنتائج التي يصل إليها، هذا مع العلم بأن المحافظة على البناء العام للصحيفة أمر جوهري للغاية لأنه يكون شخصيتها المألوفة لدى القراء.
وتدرس الألوان من ناحية التأثير النفسي في القراء سواء في الإعلانات أو الأخبار أو الموضوعات، وبالنسبة لصحافة الأطفال وصحافة الشباب وصحافة المرأة وغيرها من أنواع الصحف. فمن الثابت أن الألوان تثير انتباه القراء وتخلق أثرا محببا لأول وهلة، وعندما تستعمل في الإعلانات تكسبها جمالا وواقعية وقدرة على التأثير. ولكننا نجد من جهة أخرى أن الإسراف في استخدام الألوان يؤدي إلى عكس الغرض المنشود. وقد أثبت لوكاس وبريت1 أن ازدحام الألوان يقلل من التباين والإبراز، وبذلك تنعدم قيمة التلوين، بل إن الإسراف في الألوان يجعل الطباعة السوداء أكثر لفتا للنظر.
وقد وجد أيضا أن استعمال الألوان بكثرة في العناوين المثيرة وغيرها يكون أشبه شيء بالصخب المزعج الذي يثير إثارة غير هادفة ولا معنى لها، بل إنها تشبه بالصراخ الانفعالي العالي الذي لا لزوم له. والمخرج الصحفي الناجح لا يستعمل الألوان لغرض الإثارة في ذاتها، وإنما للإبراز والدلالة. أما إذا انتشرت الألوان بلا ضابط فإن الصحيفة تفقد توازنها وتأثيرها. فالموسيقى الجميلة تبدأ هادئة وتحمل مشاعر المستمع في شوق حتى النهاية ويمكن حينئذ الارتفاع بطبقة النغم، أما إذا بدأت صاخبة واستمرت صاخبة فيستحيل الوصول بها إلى مواضع التأكيد والإبراز وغيرها. والطبيعة نفسها لا تسرف في الألوان. فقوس قزح لا نراه إلا نادرا، وإلى جانب كل زهرة زاهية اللون ملايين الزهور العادية والأوراق الخضراء. ولو طغت الزهور الزاهية على غيرها لما لفتت أنظارنا، وكذلك الألوان في الصحافة تفقد قيمتها عند الإسراف في استعمالها.
ويعنى المخرج الصحفي كذلك بالارتباطات النفسية للألوان. فهو يعلم مثلا أن الألوان الحمراء والبرتقالية تنم عن معاني الدفء والعاطفة والحرب والخطر وغيرها. فالدم والنار لونهما أحمر. والشمس، وهي مبعث الدفء والضوء والحياة، كرة ملتهبة وضاءة غنية بالألوان الحمراء والبرتقالية. فلا غرابة، إذن، أن ترتبط الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية بالعاطفة والدفء والحياة. أما الألوان الزرقاء فتنم عن الهدوء والسكون والبرودة. فالماء لونه مائل إلى الزرقة وكذلك السحاب. فإذا اردنا استعمال الألوان في إعلان عن الثلاجات مثلا، وجب أن يكون اللون مائلا إلى الزرقة. أما إعلانات المدافئ مثلا فتناسبها الألوان الحمراء والصفراء والبرتقالية. والألوان البيضاء والزرقاء والخضراء تنم عن الطهر والنقاء، بينما تعبر الألوان الأرجوانية عن الخصوبة والرخاء. ولكن لا ينبغي أن يعتبر المخرج الصحفي هذه الارتباطات قوانين قاطعة بل لا بد أن يجرب ويختبر بنفسه. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید