المنشورات

الأسس الفسيولوجية لفن الإخراج الصحفي:

والإخراج الصحفي فن تطبيقي له أغراضه النفعية. فالصحيفة تصدر ليقرأها الناس. ويعتبر مقياس الانقرائية -القابلية للقراءة السهلة- أهم مقاييس النجاح الصحفي. ولا بد أن يدخل المخرج الصحفي في اعتباره أن قارئ الصحيفة غير قارئ الكتاب؛ لأن الصحيفة تقرأ غالبا في ظروف غير مواتية لتيسير عملية القراءة. فهناك من يطلع على صحيفته في السيارة العامة أو أثناء تناول طعام الإفطار أو في محطة السكك الحديدية، وقد يكون الضوء غير كاف للقراءة.
وقديما كانت الصحف تطبع بحروف كبيرة عندما كانت الأخبار قليلة والورق رخيصا، ثم تغيرت الأحوال بعد ذلك فارتفعت أسعار الورق وكثرت الأخبار بتقدم المواصلات والاعتراف بأهمية الصحافة، فأخذت الصحف تستعمل الحروف الصغيرة للاقتصاد فبلغت بنط 5 في الصحف الأوروبية وبنط 7 في الصحف العربية كالأهرام مثلا. ولكن تقدم البحوث الطبية والدراسات البصرية ألقى الضوء على مشكلات القراءة الصحفية وأثرها على العين. فمن الثابت أن الناس ينفقون من الوقت في القراءة أكثر مما ينفقون في الأكل مثلا، وأن الإخراج الصحفي الرديء قد يضر العين أبلغ الضرر. ومن هنا بدأت الدراسات الجادة في الأسس الفسيولوجية للإخراج الصحفي.
وقد كان الناس يعتقدون قديما أن القارئ ينتقل من كلمة إلى أخرى حتى يستوعب السطر ثم يبدأ قراءة سطر آخر، ولكن الأبحاث الحديثة أثبتت خطأ هذا الاعتقاد. والعين لا تتحرك أثناء القراءة في خط مستقيم من كلمة إلى أخرى، وإنما تتحرك في فقرات بينها وقفات. وفي كل فقزة يدرك القارئ وحدة فكرية لا وحدة لفظية. وكلما زادت الوقفات كان ذلك دليلا على تعثر القراءة. وفي بعض الأحوال يضطر القارئ إلى الرجوع وإعادة ما قرأه. ولا شك أن هذه الرجعات تدل كذلك على صعوبة القراءة، فلا بد إذن من توفير الانقرائية وتيسير القراءة عن طريق تقليل الوقفات وخفض الرجعات إلى أدنى حد ممكن.
والعين الطبيعية لا تستوعب في النظرة الأولى إلا سنتيمترين من الألفاظ تقريبا. ومعنى ذلك أنه إذا زاد طول السطر، استلزم ذلك تحريك حدقة العين أو الرأس تحريكا كثيرا قد يطول إلى حد التعب والملل. ولذلك أجريت عدة تجارب لمعرفة أطول الأسطر المناسبة للقراءة المريحة. ولا شك أن هناك علاقة وثيقة بين حجم الحروف وطول السطر. فكلما كبرت الحروف أمكن إطالة السطر، أما إذا كانت الحروف صغيرة فمن الواجب أن يكون السطر قصيرا. 

ومن الطريف أن الطابعين القدامى قد استطاعوا الوصول إلى نتائج هامة في هذا الصدد تقترب كثيرا من النتائج التي وصل إليها علماء النفس والفسيولوجيا، فقد اعتاد هؤلاء الطابعون في الماضي أن يجعلوا طول السطر بالكور مساويا لحجم الحرف بالنبط مرة ونصف مرة. فإذا استعمل حرف حجمه عشرة أبناط وجب أن يكون طول السطر خمسة عشر كورا، وإذا استعمل حرف حجمه اثنا عشر بنطا وجب أن يكون طول السطر ثمانية عشر كورا وهكذا. ولنقارن ذلك ببعض النتائج التي وصل إليها العلماء من أمثال باترسون وتنكر1 وغيرهما:
ومما سبق يتضح ضرورة جمع حروف المقدمة التي تكون عادة من بنط 24 أو بنط 18 أو بنط 12 على عمودين أو ثلاثة. أما صلب الخبر وهو عادة من بنط 9 فيكفي أن يكون على عمود واحد. ويحسن كذلك أن تجمع المواد التي يقرؤها غالبية الناس بحروف كبيرة نسبيا، أما المواد التي يقرؤها القليل من الناس كنتائج سباق الخيل أو أسعار البورصة مثلا فمن الممكن أن تجمع بحروف صغيرة. ولكن لا ينبغي أن يقف العامل الاقتصادي عائقا في سبيل الانقرائية. وعلى المخرج الصحفي أن يختصر بعض التحقيقات المطولة والمواد المكررة والحشو وغير ذلك، لكي يضمن أن الصفحات مريحة للنظر سهلة القراءة، وذلك لأن القارئ غير ملزم بمتابعة ما يعرض عليه في الصحيفة، إذا وجد صعوبة في القراءة، فهو إذا لم يجد السبيل ميسرا أمامه لجأ إلى صحيفة أخرى أو مجلة أو أي وسيلة من وسائل الإعلام كالإذاعة والتليفزيون.
ومن العوامل التي تساعد على يسر القراءة فراغ أبيض بين الكلمات والسطور. ولكن الإسراف في استعمال هذه الفراغات مثله مثل ازدحام السطور والكلمات قد يتعب النظر، ولا بد أن يستخدم الفراغ الأبيض بمهارة، كأن يأتي مثلا في نهاية فقرة ذات معنى واحد أو في آخر كل شهادة ترد في قضية من القضايا. أما إذا استعمل البياض بعد سطر واحد مثلا فقد يؤدي إلى التشويش على القارئ بإيهامه أن السطر يكون وحدة مستقلة.
ووجد أيضا أن الفراغات البيضاء بين الأعمدة ضرورية للغاية ومريحة للنظر، ويجب إلا يقل عرض جسم الجدول بين كل عمودين عن ستة أبناط وقد وصل عرض أجسام الجداول أيام الحرب العالمية الثانية إلى أربعة أنباط بل وإلى بنطين أحيانا، وذلك للاقتصاد في الورق وتكاليف الطباعة، ولكن هذه السياسة خاطئة وتؤدي عادة إلى عكس الغرض المنشود.
ويعتقد بعض الصحفيين أن الإسراف في استعمال الحروف "السوداء" يعين على يسر القراءة، ولكن الأبحاث العلمية أثبتت خطأ هذا الاعتقاد. فلا ينبغي الإسراف في استعمال الحروف "السوداء"، ويجب الاقتصاد في استعمالها على العناوين والمقدمات الأخبارية والعبارات والمراد إبرازها فقط، مع الاكتفاء باستعمال الحروف "البيضاء" في صلب الخبر.
والعناوين الفرعية لا تساعد على ترتيب الأفكار فحسب، بل تساعد أيضا على تسهيل القراءة، فهي تريح العين عند النظر إلى الحروف في صورة فقرات منفصلة لا كتلة متماسكة سوداء، وينصح علماء الصحافة بوضع العناوين الفرعية بين كل مائتين أو ثلاثمائة حرف على الأكثر. 

ويسرف بعض المخرجين الصحفيين في استعمال الحروف البيضاء على أرضية سوداء، ظنا منهم أن هذه الطريقة تسهل عملية القراءة وتساعد على الإبراز ولفت النظر، ولكن التجارب العلمية أثبتت أن الحروف البيضاء على أرضية سوداء تتعب نظر القارئ، وخاصة إذا كثر استعمالها. والقراءة بهذه الطريقة أعسر من قراءة الحروف السوداء على الأرضية البيضاء. وفي آخر الإحصاءات أن سرعة قراءة الحروف السوداء على أرضية بيضاء تزيد 10.5%عن سرعة قراءة الحروف البيضاء على أرضية سوداء، ولا بد أن يراعى الاعتدال في ذلك لأنها متعبة لنظر القارئ رغم فائدتها المحققة في لفت الأنظار.
وقد وجد أن اللون الأسود على أرضية الورق الأبيض هو أفضل الألوان بالنسبة لراحة العين، وقد يكون السبب في ذلك هو تعود القراء عبر مئات السنين على قراءة الحروف السوداء المطبوعة، غير أن الألوان الأخرى كالأحمر والأخضر والأصفر والبرتقالي والأخضر وغيرها تصلح لجذب الانتباه أكثر مما تصلح لطباعة المتن نفسه. ومما لا شك فيه أن توفير المساحة البيضاء المناسبة حول الحروف السوداء يؤدي إلى راحة العين ويسر القراءة. غير أن المساحة البيضاء نفسها ينبغي أن تتناسب مع حجم العنصر الطباعي ودرجة سوداه. فالحروف الكبيرة تحتاج إلى بياض أكبر، كما أن الحروف الداكنة السواد تتطلب بياضا أكبر من الحروف المتوسطة أو الرمادية. ولذلك فإننا نجد أن وجه الحرف يرتكز على قاعدة تزيد بمقدار بنط واحد على الأقل لتوفير البياض اللازم.
ويستخدم البياض أيضا حول العناوين والصور والإطارات، كما يستخدم حول الجداول الفاصلة بين الأعمدة بحيث لا يقل عن 6 أبناط لراحة العين. وتستخدم بعض الصحف مساحات من البياض الطولي بين الأعمدة بدلا من الجدول، كما تستخدم البياض نفسه للفصل بين الموضوعات في صفحة المقالات الافتتاحية. هذا فضلا عن استخدام المساحات البيضاء في الهوامش المحيطة بالصفحات، والمعروف أن هوامش الصحف أصغر من هوامش الكتب. مع ملاحظة أن الإسراف في المساحات البيضاء يمكن أن يتعب البصر كالإسراف في المساحات السوداء. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید