المنشورات

الأسس الفنية للإخراج الصحفي:

يتجه فن الإخراج الحديث إلى اعتبار الصفحة لوحة بيضاء غير محددة بالأعمدة تحديدا جامدا، فيستطيع المخرج أن يعرض العناصر الطباعية المختلفة -من حروف إلى صور إلى رسوم إلى خرائط- بنفس الطريقة التي يعرض بها الفنان رسومه أو صوره. وعلى هذا الأساس أصبح التصميم الصحفي مبنيا على أسس مشابهة للتصميم الفني. وينظر المخرج الصحفي إلى الصحيفة التي يخرجها على أنها وحدة متكاملة من حيث الشكل العام والإخراج الفني، ومع أن كل خبر لا بد أن يقع في مكانه المخصص له واللائق به، فلا بد أن تنسجم العناوين والحروف والصور وغيرها من العناصر الطباعية لتكون فيما بينها وحده فنية تريح النظر وتمتع القارئ وتعينه على القراءة بيسر. ولا يمكن تحقيق هذه المميزات إلا إذا كانت الصفحة مكونة تكوينا فنيا.
والتكوين الفني1 له أصوله وقواعده ولا بد أن يتوفر فيه عدة عناصر تتضافر جميعا للوصول إلى ذلك التكوين الجميل. ولعل أهم هذه الخصائص التوازن2 الذي ينقسم إلى نوعين: توازن شكلي متماثل، وتوازن غير شكلي متباين. فإذا نظرت إلى صفحة متوازنة توازنا متماثلا وجدت أن النصف الأيمين من الصفحة ينطبق تمام الانطباق على النصف الأيسر منها، وذلك من حيث كافة العناصر الطباعية. ولكن هناك توازنا آخر أكثر حيوية، تتباين فيه العناصر الطباعية المكونة لنصفي الصفحة، بحيث إنك إذا رسمت خطا عموديا في منتصف الصفحة لما وجدت أن النصفين ينطبقان كما هو الحال في التوازن المتماثل. ومع ذلك فإن هذا التوازن المستتر يمكن إحساسه، وإن كان يصعب قياسه بالمسطرة، كما تستطيع أن تفعل في التوازن المتماثل.
فالمساحة الصغيرة البعيدة عن المحور البصري للصفحة تتوازن مع مساحة أخرى كبيرة قريبة من هذا المحور. وكذلك المساحة الطباعية قاتمة اللون يمكن أن تتوازن مع عدة مساحات أخف درجة وهكذا. ويعتمد هذا النوع من التوازن غير الملحوظ على نظرية الروافع التي تجعل التوازن بين الأثقال متوقفا على حجمها وبعدها أو قربها من نقطة الارتكاز، ولعل ميزان القبان هو خير مثال لذلك. وقد وجد أن التوازن غير الشكلي يعطي المخرج الصحفي حرية في التعبير والتنويع أكثر من التوازن الشكلي الهندسي المتماثل.
ومن صفات التكوين الجميل أيضا الإيقاع1، وهو الذي يجعل التصميم نابضا بالحياة. فكما نسمع الأنغام الإيقاعية في الموسيقى، ونشهدها في الحياة بتتابع الليل والنهار والفصول والحياة والموت، فإنه من الممكن أن نلمس الإيقاع في الشكل الفني عندما تنتقل عين القارئ من عنوان إلى آخر ومن صورة إلى صورة، دون تعثر أو ملل، ولا شك أن الإخراج الأفقي الحديث قد منح الصحفي مجالا أوسع للتعبير بالإيقاع، فأصبح من السهل تكوين العناوين والصور بحرية تامة لا يتمتع بها المخرج في النظام العمودي التقليدي. وإذا كانت الخطوط العمودية تنم عن القوة والرسوخ والاستقرار والوقار، فإن الخطوط الأفقية والمائلة ترتبط بالحركة والحيوية والإيقاع وهي سمات فن الإخراج الصحفي الحديث.
والتناسب2 من أهم خصائص التكوين الجميل، ويقصد بالتناسب جمال العلاقات بين الأجزاء بعضها بالبعض الآخر وكذلك بالنسبة للشكل الكلي نفسه. ومع أن التناسب يكون نتيجة للإحساس والذوق العام فهناك بضعة إرشادات أيضا في هذا الصدد. فقد وجد اليونان أن التناسب لا يكون بالتماثل، فلا يعقل مثلا أن تكون الشجرة ذات الفروع والأغصان المتماثلة في السمك جميلة الشكل؛ إذ إنه لا بد من التدرج بنسب معينة. "والقاعدة الذهبية" التي وصل إليها اليونان تقول إن أجمل نسبة هي 3: 5 تقريبا، ويحسبها البعض حسابا دقيقا فيقولون إنها 1: 1.414 أو 3: 4.24. ومع ذلك فإن المخرج الصحفي لا ينبغي أن يكون عبدا لهذه المقايسس الإرشادية النافعة. 

فالهدف الأساسي للإخراج الفني هو الوصول إلى صفحة يسودها التوافق والانسجام1. فالعناصر الطباعية لا بد أن تنسجم لتكون صفحة متكاملة. ومع ذلك فإن المخرج الصحفي بحاجة إلى إبراز بعض العناصر كالأخبار والصور التي يرى أنها ذات قيمة أو خطر بحيث تستحق الإبراز2. ويقوم هذا العنصر على أساس التباين في المساحة والدرجة والشكل واللون والفراغات البيضاء. فالمعروف أن العنوان أو الصورة الكبيرة تلفت الأنظار وخاصة إذا قيست بالنسبة للمساحة العامة للصفحة، كما أن الحروف السوداء والصور الداكنة تثير الانتباه أكثر من العناصر الطباعية العادية، وخاصة إذا كانت على أرضية بيضاء. وقد يكون العنوان هاما ومأخوذا من وثيقة خطيرة فيحاط بدائرة أو يوضع في إطار، وبذلك يلفت الأنظار عن بقية المواد. وقد رأينا أن الألوان تثير الانتباه بطبيعتها وخاصة إذا كانت زاهية، ومع ذلك فإن الإسراف في استعمالها لا يحقق الغرض المنشود.
والفراغ الأبيض في الصحيفة يشبه الصمت في الخطابة، فإذا أراد الخطيب أو المتحدث أن يلفت الأنظار صمت برهة ليسترعى انتباه الجمهور. والموسيقى أيضا تعتبر فترات الصمت جوهرية للغاية. وقد استغلت الإعلانات تلك الفراغات استغلالا مثيرا فاحتجزت مثلا صفحة كاملة بيضاء لإعلان واحد كتب في وسطه سطر واحد بحروف صغيرة تقول: "هذه الصفحة غسلت بصابون ... " ومع ذلك، فالإسراف في استعمال المساحات البيضاء مثل الإسراف في استخدام الألوان يفسر الإخراج من النواحي الفنية والنفسية معا. وقد دأبت بعض الصحف الحديثة على استغلال خصائص الإبراز والتأكيد، ظنا منها أن ذلك يساعد على جذب الأنظار وارتفاع التوزيع، ولكن الحقيقة أن المبالغة في الإبراز لا ينجم عنها إلا التشويش على القارئ. فالعناوين الضخمة، والألوان الكثيرة المتعددة، والإطارات المتناثرة، والمساحات الداكنة، تبدو كلها وكأنها صرخات مدوية تفزع القارئ وتمسخ القيم الفنية، فلا يبدو الإبراز تأكيدا، بل إن الصحف الهادئة أصبحت أكثر جاذبية ولفتا للنظر من الصحف الصاخبة!
والواقع أن تراثنا الصحفي الأصيل بعيد عن هذا الصخب الذي بدأ قبيل الحرب العالمية الثانية، عندما طبعت الأهرام جزءا من رأس صفحتها الأولى باللون الأحمر يوم 7 يناير سنة 1931. وهناك أيضا الأرضية الحمراء الملونة للأهرام الثلاثة التي اتخذتها الجريدة شعارا لها سنة 1933، كما اتخذت جريدة المصري العلم الأخضر شعارا لها منذ أكتوبر سنة 1937. وبعد ذلك أخذت الصحافة المصرية تتبارى في إقحام الألوان بكثرة، وجربت الصور والرسوم ذات الألوان المتعددة، تمشيا مع الذوق البصري الذي خلفه عالم السينما والتليفزيون. 











مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید