المنشورات

المذهب الكلاسيكي في الإخراج الصحفي:

ويتراوح فن الإخراج الصحفي بين المذاهب التقليدية والمأثورية من جهة والمذاهب التجديدية الانطلاقية الحديثة من جهة أخرى. والتوازن المتماثل أسلوب تقليدي في الإخراج الصحفي لتكوين صفحة منسقة، وفيه يتماثل شقا الصفحة تماثلا تاما. وقد كان هذا الأسلوب سائدا في الصحافة المصرية والأجنيبة خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولا شك أن النفس البشرية ميالة بطبيعتها إلى التوازن والتماثل1. ويقول كتسون2: أن الإنسان مخلوق متوازن الشكل بطبيعته، لذلك فإنه إذا رأى شيئا أحب أن يراه بشقي كيانه المتماثلين، ولا يتسنى له ذلك إلا إذا كان ما يراه متوازنا. ولا شك أن التوازن المتماثل أسلوب ناجح ينم عن الهدوء والوقار، ولذلك تتمسك به الصحف الرفيعة لأن قراءها يأنسون إليه. ولكن هذا الأسلوب في الإخراج الذي يعبر عن الأخبار العادية في الأحوال العادية، يصبح قاصرا إذا أردنا التعبير عن أخبار متفاوتة الأهمية؛ لأنها تتطلب إبراز عناصر معينة وتأكيدها دون غيرها.
ومن عيوب الأسلوب المتماثل في الإخراج أنه هندسي شكلي، قد يبعث إلى الملل، مصطنع لا يتغير كالشعر ذي القافية الرتيبة، أو الموسيقى ذات الإيقاع الممل، ويضطر المخرج الصحفي في حالات كثيرة إلى تعديل الأخبار باختصارها أو الإضافة إليها لكي يتم التماثل بين شقي الصفحة، ولا بد أن ينجم عن ذلك مبالغة في بعض العناوين وتصغيرا لبعض العناوين الأخرى، وهذا على حساب القيم الإخبارية الصحفية. أما إذا أراد المخرج أن يحتفظ بالقيم الإخبارية مع تمسكه بأسلوب التماثل الشكلي في الإخراج، فلا بد أن يلجأ إلى وضع بقايا الموضوعات في الصفحات الداخلية، غير أن كثرة البقايا، وإحالة القائ إلى الصفحات الأخرى، تتعب القارئ وتفسد الأسلوب الإخراجي.
وقد علق أحد الصحفيين1 على هذا الأسلوب الشكلي معبرا عن الثورة عليه بقوله: إنني أريد أن أتحرر من هذا الأسلوب الجاف المصطنع، ولا أود أن تكون صحيفتي كحجرة استقبال من الطراز العتيق حيث يثبت كل مقعد في مكانه المحدود دون أن يطرأ عليه أي تغيير. ولكني أفضل أن تمتاز صحيفتي بشيء من التلقائية الطبيعية المحببة إلى النفس، حتى يشعر القارئ أنه يطلع على صحيفة واقعية، تعرض عليه الأنباء بالطريقة التي ينبغي أن تعرض بها دون مبالغة أو تهويل أو تقييد جامد في قوالب حديدية من التوازن المتماثل. وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى التحلل من الأصول الإخراجية أو الدفاع عن الصحف الانطلاقية، وإنما أدعو إلى إخراج واضح يمتاز بالمرونة والتلقائية. وأسلوب كهذا في الإخراج قمين بدفع الملل وتبديد السأم بالإضافة إلى مرونته وإشباع ميول القراء في البحث عن كل جديد.
لذلك بدأ المخرجون الصحفيون يتحررون من قيود التماثل الدقيق، ويأخذون بالتوازن المتحرر في أجزاء من الصحفة. فنجد أن صفحات تتوازن في سنة أعمدة ولا تتوازن بالنسبة للعمودين الآخرين وبذلك يتحرك المحور البصري للصفحة إلى اليسار مثلا. وقد يتم التوازن في أعلى الصفحة وفي أسفلها مع بقاء وسط الصفحة دون قيد التماثل. وقد يكون التوازن بعناصر طباعية مختلفة فيقابل العنوان صورة مثلا، كما يمكن تعدد المحاور البصرية في أجزاء الصفحة الأربعة مع تنوع العناصر الطباعية وفقا لذوق المخرج. وهكذا نجد أن هذا الأسلوب غير الشكلي يتم فيه التوازن بتوزيع القوى وتعادلها حول المحور البصري للصفحة. فمساحة واحدة كبيرة على مقربة من المحور يمكن أن تتوازن مع مساحة صغيرة بعيدة عنه سواء كانت هذه المساحة صورة أو حروفا أو رسوما أو غير ذلك. أو أن مساحة داكنة كبيرة تتوازن مع بضع مساحات فاتحة صغيرة. وتوزع المساحات عادة على خطوط مائلة وعلى أبعاد متفاوتة. وهكذا يستطيع المخرج الصحفي أن يتجنب الرتابة والتزمت بالتحرر من قيود التماثل الهندسي الشكلي الدقيق، كما يمكنه أن يعرض الأخبار وفقا لأهميتها النسبية عن طريق التوازن المتباين1.
ولكن المخرج الصحفي يواجه أحيانا بخبر هام تطغى قيمته الصحفية على سائر الأخبار الأخرى، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى إبراز هذا الخبر وتأكيده مع الاحتفاظ بوحدة الصفحة واتساقها. وهو يستطيع أن يحقق ذلك إذا استعان بأسلوب الإخراج البؤري2، وفيه يظهر عنوان كبير متوازنا مع عدة عناوين أخرى أصغر منه وأقل سوادا. فإذا كانت البؤرة البصرية فوق الربع العلوي الأيمن من الصفحة، كان لا بد من توزيع بقية المواد الطباعية متدرجة من أعلى اليسار إلى أسفل اليمين بطريقة تشبه الدعامة أو الرف، وهكذا يوجد إلى جانب البؤرة البصرية الأصلية بؤرة بصرية ثانوية تنتقل إليها العين بعد استيعاب الجزء الرئيسي الأول.
وهنا تواجه المخرج الصحفي مشكلة أخرى هامة، فأي مكان من الصفحة يعتبر أكثر جذبا ولفتا للأنظار؟ إن علماء النفس المحدثين من أمثال هوجو مونستربرج3 وغيره ممن عنوا بدراسة علم النفس الصحفي يؤكدون أن عين قارئ الصحيفة تتحرك من اليسار إلى اليمين "عند قراءة الصحيفة الأجنبية" حتى تصل إلى نهاية السطر في أقصى اليمين فتكون الوقفة، حيث "تهضم" العين ما قرأت، ويعي العقل ما استوعبه. ولذلك فإن الصحف الأمريكية تفضل وضع الموضوعات الهامة في أقصى اليمين، وهذا على العكس من الصحف الإنجليزية التي لا زالت تضع هذه الموضوعات إلى اليسار.
ويرى علماء النفس أيضا أننا إذا وضعنا الموضوع الهام في غير مكانه الطبيعي، فإننا نرغم العين على التوقف والتبصر إرغاما، فيتأثر العقل تأثرا لا شعوريا، يفسد عملية القراءة الطبيعية. ويهمنا أن نذكر بالنسبة للصحافة العربية أن أبحاثا قد أجريت منذ سنوات لدراسة سلوك القارئ، ومن نتائجها أن القارئ العربي يمر ببصره على السطر من اليمين إلى اليسار فتكون الوقفة في أقصى اليسار، حيث ينبغي أن توضع الموضوعات الهامة. فإذا طبقنا هذه النتيجة العلمية الهامة، كان لا بد للمخرج الصحفي العربي أن يحدث انقلابا في الإخراج مثل الانقلاب الذي حدث في الصحافة الأمريكية، فتنتقل الموضوعات الهامة من اليمين إلى اليسار كما انتقلت هذه الموضوعات في الصحافة الأمريكية من اليسار إلى اليمين.
وإذا كان الإخراج البؤري يساعد على التعبير عن القيمة الإخبارية للمواد الصحفية، فإنه قد يفسد توازن الصفحة إذا لم يكن المخرج الصحفي شديد الحذر. فالمبالغة في العنوان البؤري قد تجعل مركز الثقل في مكان واحد فيختل توازن الصفحة، لكن المخرج الفنان يستطيع بمهارته أن يوزع العناوين توزيعا دقيقا على أجزاء الصفحة بحيث تشير جميعا إلى العنوان البؤري فتجذب النظر إليه، وتتوازن معه في الوقت نفسه فتخدم الوحدة الفنية للصفحة. فالمهم -إذن- هو أن تتساوى قوى الجذب والشد بحيث ينتج التوازن من تعادلها.
والواقع أن المذهب الكلاسيكي في الإخراج الصحفي يهدف بأساليبه المختلفة إلى اتساق الصفحة وتكاملها، بحيث ينظر إليها القارئ على أنها وحدة فنية تتضافر أجزاؤها جميعا للتعبير عن شتى الموضوعات، وينبغي أن تتدرج العناوين والصور والحروف من حيث الحجم ودرجة السواد من أعلى إلى أسفل على أن يكون هذا التدرج غير مفتعل، وإلا اختل التوازن وأصبح الجزء العلوي أثقل بكثير من الجزء السفلي.
أما إذا كانت العناوين متساوية السواد والحجم فإنها تبدو كالبقع أو كرقعة الشطرنج، كما أن الإسراف في الفراغات البيضاء يفسد الصفحة؛ لأن هذه الفراغات تتصل ببعضها وتكون أشكالا شاذة تفسد نظام الصفحة. ومن الخطأ وضع العناوين أو الصور على خط الطي "وهو وسط الصفحة التي تطوى عنده" ولكن ينبغي أن توزع العناوين والصور على جميع أجزاء الصفحة العليا الوسطى والدنيا لكي تتم الوحدة الفنية المتكاملة في تدرج واتزان. 












مصادر و المراجع :

١-دراسات في الفن الصحفي

المؤلف: إبراهيم إمام

الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید