المنشورات
المذهب الحديث في الإخراج الصحفي:
وثمة مذهب آخر في الإخراج الصحفي لا يحفل بالقواعد التقليدية ولا يهتم بالقوانين الفنية المأثورة، بل إنه كثيرا ما يتعمد تخطي القواعد وتحطيم القيود. وينطوي هذا المذهب الحديث على الانطلاق والتحرر من أفكار التوازن بجميع أشكاله، وإهمال الوحدة الفنية التقليدية إهمالا مقصودا. ويمكن اعتبار المذهب الانطلاقي الحديث امتدادا طبيعيا للفنون الحديثة بمدارسها التجريدية والسيريالية والتكعيبية والتعبيرية والمستقبلية1 وغيرها. فالقواعد الكلاسيكية والنتائج الأكاديمية تحطم من أجل التعبير الحي والتجريب الجديد. وتتخطى الصحافة الانطلاقية قيود الإخراج الصحفي الكلاسيكي إمعانا في جذب الأنظار. وإبراز بعض النواحي الهامة من الأخبار، وجريا وراء الترويح وارتفاع التوزيع. فلا بأس من وضع العناوين الحمراء الضخمة إلى جانب العناوين السوداء العريضة والصور الداكنة والألوان الصاخبة. ولا بأس أيضا من استعمال بعض أنواع الخطوط التي قد لا تنسجم مع بعضها البعض، بل تتباين تباينا شديدا للإثارة ولفت الأنظار.
ويدافع أصحاب المذهب الحديث في الإخراج عن أساليبهم قائلين إنها تتمشى مع روح العصر. فقد انتهى زمن الإخراج العمودي بانتهاء عصر العربات والخيول وشيوع السيارات والقطارات. وإذا نظرنا إلى سيارة حديثة وجدنا أنها عرضية الشكل، أفقية التصميم، انسيابية الأجزاء، تتوازى مقابضها وأبوابها توازيا أفقيا مع سطح الأرض ولا تتعامد عليه، كما كانت هندسة العربات والسيارات العمودية في بداية ظهورها. وقد انتهى كذلك عصر الزخارف المعقدة، وجاء بدله عصر البساطة والوظيفية، فمظهر الشيء ينبغي أن يستمد من وظيفته دون تهويل زخرفي أو تعقيد لا داعي له.
وهناك أسلوبان رئيسيان للمذهب الحديث في الإخراج الصحفي، أما الأول فهو الأسلوب الوظيفي التجريبي، وأما الآخر فيمكن أن نسميه بالأسلوب الانطلاقي العشوائي. فبينما يهدف الأسلوب الأول إلى التحرر من القيود على أسس علمية تجريبية لتحقيق الرسالة الإخراجية من تيسير القراءة ووضوح التعبير وتبسيط العرض وفاعلية الإعلام، نجد أن الأسلوب الآخر لا يلوي على شيء إلا الإثارة غير الهادفة. فالأسلوب الأول علمي مقصود، وأما الآخر فهو غير مقصود ولذلك يسمى بالعشوائي أو الارتجالي.
ومن سمات الأسلوب الوظيفي الحديث تبسيط العناوين وإبرازها، واستخدام الفراغات البيضاء بدلا من الجداول بين الأعمدة، وإيثار الإخراج الأفقي على الإخراج العمودي، وجمع مواد الموضوع الصحفي على عمودين أو أكثر بدلا من جمعها في عمود واحد، والتجريب في وضع اسم الجريدة في رأس الصفحة بحيث يكون في الوسط أحيانا، وأحيانا أخرى إلى اليمين أو إلى اليسار، والتوزيع كذلك في أشكال العناوين والعناوين الفرعية. وتجري التجارب أيضا في وضع العناوين المنتشرة "المانشيتات" فقد تكون فوق اسم الصحيفة أو تحته، وقد تستعمل مجموعة من الصور المتجاورة بدلا من العنوان المنتشر "المانشيت". ويؤمن أصحاب المذهب التجريبي بضرورة الدراسات الإحصائية لفهم اتجاهات القراء على أسس نفسية وفسيولوجية، مع مواصلة التجريب وتعديل الخطة الإخراجية على هذه الأسس العلمية.
وهناك تجربة إخراجية تتلخص في تبويب الصفحات تبويبا دقيقا بحيث تتجمع أخبار السياسة مثلا في مكان واحد وأخبار الجريمة كلها في مكان آخر.
وهكذا بالنسبة لأخبار الفن والرياضة والدين والأدب وغيرها، وعلى نحو ما تفعله مجلة تايم ومجلة نيوزويك الأمريكيتين. وبذلك تشبه الصفحة كتابا مبوبا منسقا. ويذكر نيل سوانسون1 سبع مزايا لهذا الأسلوب في الإخراج وهي:
1- أنه أكثر مرونة من الأسلوب التقليدي لأنه يسهل عملية التصحيف بالنسبة للأخبار التي ترد متأخرة.
2- ينظم العمل في أقسام المراجعة وسكرتارية التحرير.
3- اقتصادي في شغل الحيز المعقول دون إسراف.
4- اقتصادي أيضا في عملية الجمع، وكذلك في الوقت والجهد المبذولين في عملية التصحيف؛ إذ إنه لا حاجة إلى جمع البقايا، ما دامت الأخبار تخرج إخراجا نوعيا.
5- تكون الموضوعات المترابطة تحت عنوان واحد.
6- ييسر القرءان لأن الموضوعات تدور حول محاور متجانسة بدون بقايا.
7- طريقة ناجحة للتعبير عن وجهتي النظر في مكان واحد، بدلا من وضع وجهة نظر في صفحة ووجهة نظر أخرى في صفحة ثانية، فقد يقرأ القارئ. واحدة منهما دون الأخرى.
أما الأسلوب الانطلاقي العشوائي فهو أسلوب ارتجالي لا يقوم على أسس تجريبية مقصودة، وإنما يهدف إلى الإثارة، بنشر العناوين الضخمة والمبالغة في التلوين والإبراز. ولا يدري المخرج الصحفي أن إعطاء الأخبار عناوين كبيرة متساوية الضخامة يؤدي إلى قتل بعضها البعض، والتشويش على القارئ، فإذا تصادمت العناوين الكبيرة والأنماط السوداء والصور الضخمة تشتت انتباه القارئ وكل بصره وشعر بالدوار من هذه الفوضى. فلا غرابة إذن أن يشبه علماء الصحافة هذا النوع من الإخراج بالسيرك! فيجب على المخرج الصحفي إدراك أن حروف الطباعة ما اخترعت إلا لتقرأ، وأن التكديس والازدحام والعناوين الثقيلة والجداول المعقدة المتراكمة والصور الداكنة القلقة، إذا ما حشدت حشدا مرتجلا لا تؤدي إلا إلى الملل والفوضى. ومن هنا كان على المخرج الصحفي أن يسأل نفسه عن الغرض من اتباع أسلوب معين في الإخراج وتفضيله على غيره، ومدى ملاءمته لمضمون التحرير. أما مجرد حشو الصحفحات بالعناوين والألوان والصور الضخمة دون هدف سوى الإثارة فلا ينجم عنه إلا الفشل.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
28 نوفمبر 2024
تعليقات (0)