المنشورات
تطور فن التصوير الصحفي:
ولقد كانت ألمانيا على وجه التحديد هي المسرح الكبير الذي شهد نهضة فن التصوير الصحفي، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإذا كانت الحقبة الواقعة بين عامي 1880 و1890 قد شهدت حماسة الهواة الذين أولعوا ولعا شديدا بفن التصوير من حيث هو فن وليد، فإن الفترة المبتدئة بسنة 1920 قد شهدت حماسة أخرى جديدة لفن التصوير الأخباري. ومن الجدير بالذكر أن البيئة الثقافية والاجتماعية قد أتاحت لفن التصوير الضوئي فرص التقدم والنجاح، فقد انتشرت في فترة ما بين الحربين العالميتين اتجاهات متعددة من عدم المبالاة والتنكر للقيم والسخرية من المثاليات والتهكم بالمبادئ والدعوة إلى المتعة، كما ظهرت المدارس الفنية الحديثة كالمستقبلية والتكعيبية والدادية والسيريالية وغيرها من المدارس التي بعدت عن الطبيعة ونأت عن الواقع، مما أتاح للمصور الفوتوغرافي فرص التشبت بالطبيعة وترجمة الواقع والتعلق بالموضوعية ونقل الصور الواقعية التي هجرها الفنانون.
وهكذا نستطيع القول أن أعراض الفنانين عن الطبيعة والواقع قد ترك فراغا في عالم الفن، كان لا بد للمصورين الفوتوغرافيين أن يقوموا بملئه. فلم يكن غريبا، إذن، أن نرى معظم صور هذه الفترة تسجل الطبيعة بأشجارها وسحبها ومياهها وقد سبحت فوقها السفن، كما انتشرت صور الأطفال والحيوانات وغيرها. وفي هذه الحقبة نفسها اشتهر المصور الفرد إيزنشتات1 بصوره الرائعة التي سجلت موضوعات طبيعية بأسلوب جمالي يحاكي نفس الأسلوب الذي هجره الفنانون المحدثون إلى التجريد والسيريالية، ثم شهدت سنة 1925 مولد آلتين هامتين كان لهما أبعد الأثر في تطور التصوير وهما أرموناكس وليكا2، وقد كانت الأولى تتطلب استعمال الألواح الحساسة التي تركب على حامل معدني "شاسيه" داخل الحجرة المظلمة فلم تصلح للعمل الصحفي، في حين أن الآلة الأخرى التي اخترعها أوسكار بارناك قد فتحت لفن التصوير الصحفي آفاقا جديدة وأتاحت له فرصا ذهبية.
وقد اشتهر في عالم ما بين الحربين عدد كبير من المصورين الذين يعتبرون الرواد الأوائل لفن التصوير الصحفي، ومن هؤلاء المصور بول ولف3 الذي التقط خمسة آلاف صورة في الفترة بين سنة 1925 وسنة 1943 وألف كتابا أسماه "سنواتي العشر مع آلة التصوير لايكا". ومن الرواد الأوائل أيضا الفرد إيزنشتات الذي عمل في مجلة درفلت شيجل4 وفي صحيفة تاجي بلات5. أما إيزيش سالومون6 فهو صاحب الفضل الأكبر في تطور فن التصوير الصحفي والوصول به إلى مرتبة المهن الرفيعة. وقد بدأ سالمون حياته محاميا، ثم انتقل في سنة 1928 إلى مهنة التصوير، وكان يتقن سبع لغات ويكثر الأسفار والرحلات بين برلين وباريس وجنيف. وتعد صوره الصحفية الناجحة والمليئة بالحركة والحياة حجر الأساس الذي بني عليه فن التصوير الصحفي الحديث. وقد علم سالمون في عدة مؤسسات صحفية أهمها مؤسسة أولشتاين1 الألمانية التي كانت تملك عدة صحف ومجلات في برلين أهمها ألوستريرته تزايتونج2 الأسبوعية المصورة التي بلغ توزيعها مليونين من النسخ، وكذلك مجلة دي دامي3 النسائية الشهرية. ومن الرواد الأوائل أيضا مصور مجري يدعى مارتن موناكزي4 الذي اشتهر في سنة 1926، وأقام معرضا لصوره الرائعة سنة 1934، وقد كان اهتمام هذا المصور موجها إلى عارضات الأزياء اللاتي التقط لهن صورا فنية بأسلوب صحفي جديد مليء بالواقعية والحيوية والحركة.
وبفضل هؤلاء الرواد الأوائل استقل فن التصوير الصحفي عن فنون التصوير الجمالية والتسجيلية والتذكارية، على غرار أسلوب الكتابة الصحفية التي استقل عن الأسلوب الأدبي، واعترفت الصحافة بقيمة الصورة كعنصر أساسي لا يقل عن الخبر أو المقال أو التحقيق. وبينما كانت الصور من نوع اللقطات التقليدية الجامعة أو النوع الوضعي المدبر من قبل، فإن مزيدا من عنصر لقطات العدسة الواقعية الصادقة في النقل بدأ يظهر كذلك اتسع أفق الصورة بفضل ازدهار المجلات المصورة الكبرى مثل لايف ولوك وغيرهما في العقد الرابع من هذا القرن، فزاد عدد ما ينشر من صور حوادث الاصطدامات والمشاجرات وغير ذلك من المشاهد المماثلة التي كانت تعتبر غير لائقة في السابق. وقد اكتشفت الصحافة الحديثة أن الصورة تحقق وظائف الفن الصحفي من إعلام وتفسير وتوجيه وترفيه وتشويق وتنشئة اجتماعية، بمعنى أن المصور الناجح يستطيع أن يتخير لقطات معينة تكون بمثابة مقالات مصورة تتحدث بروح الفكاهة أحيانا فتثير الضحك، وبروح الجد والإصلاح فتنقد الأحوال الاجتماعية، أو بروح التهكم الساخر فتوقظ النائمين من سباتهم.
وقد كان للصحافة المصرية أيضا روادها الأوائل في فن التصوير منذ بداية القرن العشرين عندما كانت الصحف تعتمد على أستوديوهات التصوير التجارية كما كانت تسند إلى بعض المصورين العاديين بعض المهام الصحفية. ولعل المصور النمساوي ديتريش الذي عمل مصورا للقصر في عهد عباس سنة 1905، هو من طليعة الرواد الأوائل في هذه الفن. وقد تتلمذ عليه طائفة من المصورين المصريين الذي نبغوا فيما بعد نبوغا عظيما، نذكر منهم المصور رياض شحاتة. ومن الطريف أن هؤلاء المصورين الأوائل من أمثال ديتريش النمساوي وبابازيان الأرمني ورياض شحاته المصري وغيرهم من المصريين والأجانب كانوا يستعملون في بداية الأمر آلات تصوير كبيرة من نوع المنفاخ مثل مقاس 30×40 سم و18×24 سم. واشتهر المصور هانزلمان السويسري بصوره الناجحة، وإن كانت تعوزها الحركة، كما اشتهر المصور كانتي الإسباني بصوره الناجحة في مجلة اللطائف المصورة وغيرها من صحف دار الهلال مثل مجلة الدنيا المصورة ومجلة النيل وغير ذلك من المجلات التي كانت تظهر في ذلك الوقت. وقد رأينا أن جريدة الأهرام كانت أولى الصحف التي عنيت بفن التصوير الصحفي والاهتمام بالصورة الصحفية، وكانت أول صورة تظهر في صحافتنا يوم 4 مايو سنة 1881 لفرديناند دي ليسبس ومعه طفلته على العمودين الأول والثاني من الصفحة الأولى من جريدة الأهرام. وتوسعت صحيفة الجريدة في نشر الصورة ابتداء من سنة 1908، ثم تنافست الصحف في نشر أخبار الحرب العالمية الأولى مدعمة بالخرائط والرسوم؛ وخاصة المقطم والأهرام.
وأخذ فن التصوير يتطور تطورا عظيما فظهر من مشاهير المصورين زخاري وميشيل نظر ومصرف ورياض إبراهيم وغيرهم. وقد نجح المصور ميشيل نظر نجاحا باهرا لأول مرة في الكشاف حوالي سنة 1927 ثم انتقل إلى دار الهلال وظل يعمل بها حتى سنة 1931، كما اشتغل ابتداء من سنة 1932 بجريدة الأهرام حتى تركها سنة 1946 إلى شركة الإعلانات الشرقية. وقد كان المصور صبحي رياض شحاته يمد الصحف والمجلات بالصور الصحفية الناجحة، كما حصل على توكيلات لمعظم الشركات الصحفية ووكالاتها في أوروبا وأمريكا لإمدادها بالصور الصحفية عن مصر. أما اليوم فقد أصبح فن التصوير الصحفي ركنا هاما من الصحافة المصرية الحديثة التي تعتمد على الصورة اعتمادا كبيرا، ولا تضن هذه الصحف بالمال الوفير للحصول على الأخبار والموضوعات المصورة، ومن المعروف أن المصورين المصريين يذهبون الآن في رحلات صحفية عالمية للحصول على الصور الصحفية اللازمة. كما تزود دور الصحف بمعامل فنية كاملة للتحميض والطبع والتكبير مجهزة على أحدث طراز يقترب كثيرا من نظائره في أوروبا وأمريكا.
وقد اجتذب فن التصوير الصحفي طائفة من الشباب المثقف الذي يعمل في هذا الميدان الجديد تحت رعاية المصورين القدامى الناجحين وإشرافهم أمثال محمد يوسف الذي بدأ عمله منذ سنة 1934 بمجلة روزاليوسف ثم دار الهلال وانتقل إلى دار أخبار اليوم منذ إنشائها، وهو يعمل الآن كبيرا للمصورين بتلك المؤسسة. أما عبده خليل فقد عمل بدار الهلال مدة طويلة مع محمد يوسف قبل انتقاله إلى الجمهورية، كما افتتح إرشاك مصرف في بدء حياته مكتبا خاصا يمد الصحف بما تحتاجه من صور وموضوعات فنية، فكان بمثابة وكالة صور على نطاق محدود. ومن الجدير بالذكر أن الصحف المصرية تعنى عناية فائقة بأرشيف الصور وحفظ الأفلام التي تم تصويرها وفقا لأحدث أساليب الحفظ بحيث يتسنى للباحث أن يحصل على ما يطلبه من صور في الحال، والمتبع عادة أن تسجل الأفلام تحت أرقام خاصة ثم يتفرع عنها أرقام أخرى بالنسبة لعدد الصور المكونة للفيلم الواحد. وتستعين الهيئات المختلفة من حكومية وأهلية بأرشيف الصور الذي تنظمه الصحف والمجلات.
مصادر و المراجع :
١-دراسات في الفن الصحفي
المؤلف: إبراهيم إمام
الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية
28 نوفمبر 2024
تعليقات (0)