المنشورات

ملوك الشام

قال أبو محمد:
أوّل من دخل «الشام» من العرب: سليح، وهو من «غسان» - ويقال من «قضاعة» ، فدانت بالنصرانية، وملك عليها ملك «الروم» رجلا منهم. يقال له «النعمان بن عمرو بن مالك» - ثم ملك بعده ابنه «مالك» ، ثم ابنه «عمرو» ، ولم يملك منهم غير هؤلاء الثلاثة.
فلما خرج «عمرو بن عامر مزيقياء» من «اليمن» في ولده وقرابته، ومن تبعه من «الأزد» ، اتبعوا بلاد «عك» ، وملكهم يومئذ «سملقة» ، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتادون لهم المنازل، ويرجعون إليهم. فأذنوا لهم، فوجه «عمرو بن عامر» ثلاثة من ولده: الحارث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو. ووجه غيرهم روّادا. فمات «عمرو بن عامر» بأرض «عك» ، قبل أن يرجع إليه ولده وروّاده، واستخلف ابنه «ثعلبة بن عمرو» ، وأن رجلا من «الأزد» ، يقال له: جذع بن سنان- احتال في قتل «سملقة» ، ووقعت الحرب بينهم، فقتلت «عك» أبرح قتل، وخرجوا هاربين. فعظم ذلك على «ثعلبة بن عمرو» ، فحلف ألا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى «مكة» ، وأهلها يومئذ «جرهم» ، وهم ولاة البيت، فنزلوا «بطن مر» ، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم «جرهم» ، فنصرت «الأزد» عليهم، فأجلوهم عن «مكة» ، ووليت «خزاعة» البيت. فلم يزالوا ولاته، واشتدّت شوكتهم، وعظم سلطانهم، حتى أحدثوا أحداثا، ونصبوا أصناما.
ثم سار «قصي» إلى «مكة» ، فحارب «خزاعة» بمن تبعه، وأعانه «قيصر» 

عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع «قريشا» ، وكانت في الأطراف والجوانب، فسمى «مجمعا» وأقامت «الأزد» زمانا، فلما رأوا ضيق العيش ب «مكة» ، شخصوا، وانخرعت عنها «خزاعة» لولاية البيت، فصار بعضهم إلى السواد، فملكوا بها عليهم: «مالك بن فهم» أبا «جذيمة بن مالك الأبرش» [1] ومن/ 314/ تبعه.
وصار قوم إلى «يثرب» ، فهم: «الأوس» و «الخزرج» . وصار قوم إلى «عمان» ، وصار قوم إلى «الشام» ، فهم: «آل جفنة» ملوك «الشام» .
وصار «جذع بن سنان» قاتل «سملقة» ، إلى «الشام» أيضا، وبها «سليح» ، فكتب ملك «سليح» إلى «قيصر» يستأذنه في إنزالهم. فأذن له على شروط شرطها لهم، وأن عامل «قيصر» ، قدم عليهم ليجبيهم، فطالبهم- وفيهم «جذع» - فقال له «جذع» : خذ هذا السيف رهنا أن نعطيك. فقال له العامل: اجعله في كذا وكذا من أمك، فاستل «جذع» السيف فضرب به عنقه. فقال بعض القوم:
«خذ من جذع ما أعطاك» . فذهبت مثلا. فمضى كاتب العامل إلى «قيصر» فأعلمه، فوجه إليهم ألف رجل، وجمع له «جذع» من «الأزد» من أطاعه، فقاتلوهم، فهزموا «الروم» ، وأخذوا سلاحهم، وتقوّوا بذلك، ثم انتقلوا إلى «يثرب» ، وأقام «بنو جفنة» ب «الشام» وتنصروا. ولما صار «جذع» إلى «يثرب» ، وبها اليهود، حالفوهم، وأقاموا بينهم على شروط. فلما نقضت اليهود الشروط، أتوا «تبعا الآخر» ، فشكوا إليه ذلك، فسار نحو «اليهود» حتى قتل منهم، وقد تقدّم ذكر هذا. وخرجت «طيئ» من بلاد «اليمن» ، بعد «عمرو بن عامر» 

بمدّة يسيرة، فنزلت «الجبلين» : «أجأ» و «سلمى» ، وحالفتها «بنو أسد» بعد إذلال من «طيِّئ» لها وقهر.
فأوّل من ملك «الشام» من «آل جفنة» :
الحارث بن عمرو بن محرق:
وقد اختلف النساب فيما بعد «عمرو» من نسبه. وسمى «محرقا» ، لأنه أوّل من حرق «العرب» في ديارهم، فهم يدعون: «آل محرق» ، وهو:
«الحارث الأكبر» ، ويكنى: «أبا شمر» .
الحارث بن أبى شمر:
ثم ملك بعده «الحارث بن أبى شمر» ، وهو: «الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر» . وأمة «مارية ذات القرطين» . وكان خير ملوكهم، وأيمنهم طائرا، وأبعدهم مغارا، وأشدّهم مكيدة، وكان غزا «خيبر» فسبى من أهلها، ثم أعتقهم، بعد ما قدم «الشام» ، وكان سار إليه «المنذر بن ماء السماء» في مائة ألف. فوجه إليهم مائة رجل، فيهم «لبيد» الشاعر، وهو غلام. وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته، فأحاطوا برواقه/ 315/ فقتلوه، وقتلوا من معه في الرواق، وركبوا خيلهم، فنجا بعضهم، وقتل بعض، وحملت خيل «الغسانيين» على عسكر «المنذر» ، فهزموهم. وكانت له بنت يقال لها: «حليمة» ، وكانت تطيّب أولئك الفتيان يومئذ، وتلبسهم الأكفان والدروع، وفيها جرى المثل: «ما يوم حليمة بسر» .
وكان فيما أسر يومئذ أسارى من «بنى أسد» ، فأتاه «النابغة الذبيانيّ» فسأله إطلاقهم، فأطلقهم، وأتاه «علقمة بن عبدة» في أسارى من «بنى تميم» ، وفي أخيه «شأس بن عبدة» ، فأطلقهم، وفيه يقول «علقمة» : 

[طويل]
إلى الحارث الوهّاب أعملت ناقتي ... بكلكلها والقصريين وجيب
وفي كل حىّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس من نداك ذنوب «1»
فقال الحارث: نعم، وأذنبة.
الحارث بن الحارث بن الحارث:
ثم ملك بعده «الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر» - وكان له إخوة، منهم: النعمان بن الحارث- وهو الّذي قال فيه «النابغة» : [رجز]
هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير سريع التّمام
للحارث الأكبر والحارث الأصغر ... والحارث الأعرج خير الأنام
وله يقول النابغة أيضا، وكان خرج غازيا: [طويل]
إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معدّا ملكها وربيعها
ويرجع إلى غسّان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو أننا نستطيعها
وكان ل «لنعمان بن الحارث» ثلاثة بنين: «حجر بن النعمان» - وبه كان يكنى- و «النعمان بن النعمان» ، و «عمرو بن النعمان» . وفيهم يقول «حسان بن ثابت» : [مديد]
من يغرّ الدّهر أو يأمنه ... من قتيل بعد عمرو وحجر
ملكا من جبل الثلج إلى ... جانبي أيلة من عبد وحرّ
ومن ولد «الحارث الأعرج» أيضا «عمرو بن الحارث» ، الّذي كان «النابغة» ، صار إليه حين فارق «النعمان بن المنذر» ، وله يقول «النابغة» : [طويل]
/ 316/ عليّ بعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب 

وكان يقال ل «عمرو» : أبو شمر الأصغر. ومن ولده: «المنذر بن الحارث» ، و «الأيهم بن الحارث» ، و «الأيهم» هذا، أبو «جبلة بن الأيهم» ، و «جبلة» آخر ملوك «غسان» ، وكان طوله اثنى عشر شبرا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض، وأدرك الإسلام، فأسلم في خلافة «عمر بن الخطاب» ، ثم ارتد، وتنصر بعد ذلك ولحق ب «الروم» . وكان سبب تنصره أنه مر في سوق «دمشق» ، فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه «الغسانيون» ، فأدخلوه على «أبى عبيدة بن الجراح» ، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال «أبو عبيدة بن الجراح» : البينة أنّ هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة؟ قال:
إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل؟ قال: لا. قال: ولا تقطع يده؟ قال: لا. إنما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة، فخرج «جبلة» ولحق بأرض «الروم» وتنصر. ولم يزل هناك إلى أن هلك. 













مصادر و المراجع :

١-المعارف

المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ)

تحقيق: ثروت عكاشة

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة

الطبعة: الثانية، 1992 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید