المنشورات

اختلاف لغات العرب:

قدمنا أن بعض أسباب اختلاف اللغات عند العرب كونهم أميين لا يكتبون، فبقيت اللغة متعلقة على الألسنة، تتغير ما دام يتكلم بها وما دامت ألسنتهم متصرفة بالسليقة أو ما هو في حكمها، كالتقليد الطبيعي الذي يأخذ به العربي للخفة وانحراف لسانه إليه طبيعة؛ لأنه يركب منه قياس نفسه كأنه من منطقة الموروث.
لا جرم كانت اللغات كثيرة؛ فإن العرب قبائل، وتحت كل قبيلة بطون متعددة، ثم الأفخاذ، ثم العشائر، ثم الفصائل1؛ ولا بد أن يكون ناموس الاختلاف قد عم هذه الأقسام كلها، إن لم يكن في أصل اللغة ففي الفروع واللهجات.
وقد نقل صاحب "المخصص" في موضع من كتابه أن أبا عبيد روى عن الكسائي النحو -توفي سنة 182هـ- أن المضارع من "نمى" إنما هو "ينمي" بالياء، وقال الكسائي: لم أسمع "ينمو" بالواو إلا من أخوين من بني سُلَم، ثم سألت عنه جماعة من بني سُلَيم فلم يعرفوه بالواو. هذا على انتشار اللغة يومئذ بالقرآن والشعر في جمهور العرب، ولزومها على الغالب طريقة واحدة وحدا معروفًا، ومع ذلك بقي الاختلاف حتى في الفصيلة الواحدة؛ لأن هذين الأخوين أهل بيت واحد امتاز بهذه اللغة عن العشيرة كلها.
ولا بد لنا من التنبيه على أن الرواة والعلماء لم يدونوا اللهجات على مناطق العرب قبل تهذيب قريش للغة، ولكنهم تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قبيل ذلك؛ أما سواد ما كتبوه فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات الأولى التي كانت لعهد الجاهلية.
على أنهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام، أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين: كالبصريين والكوفيين؛ أما تدوين اللهجات على أنها أصل من أصول الدلالة التاريخية في اللغة فهذا لم يتنبه له أحد فيما نعلم؛ لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما قرشية؛ وهذه يقل الاختلاف فيها؛ لأنها حضرية مهذبة، والتحضر شيء ثابت فكأنها في حكم المدونة.
وقبل أن نأتي على ما وقفنا عليه من وجود الاختلاف والكشف عن معنى الأدلة التاريخية فيها، نذكر شيئًا قليلًا عن تفرع قبائل العرب؛ لأنه من الأدلة الطبيعية على تفرع اللهجات وانشقاقها بما يطرأ عليها من أسباب المخالطة وقدم العهد ونحو ذلك. 

قبائل العرب:
تنقسم القبائل العربية إلى قسمين: القحطانية، والعدنانية؛ وقد تداخلت لغاتهما جميعًا بعد الإسلام وصارت لغة واحدة هي القرشية، إلا فروقا قليلة بقيت في المنطق كأنها أدلة أثرية.
فمن القحطانية حمير، وغسان، ولخم، والأزد، ومذحج، وكندة، وطيء، وغيرها -وبعضهم بعد منها قضاعة أيضًا-؛ وأولئك عرب الجنوب.
أما العدنانية أو عرب الشمال وهم أهل هذه اللغة، فمنازلهم في تهامة ونجد والحجاز، إلا قريشًا فإنهم تحضروا في مكة؛ وتلك البادية هي التي صهرت اللغة وأحالتها إلى هذه السبيكة الفنية العجيبة؛ ويرجع هؤلاء العرب إلى فرعين ينتهيان إلى عدنان، وهما: عك، ومَعَدّ؛ وقد بقيت من عك بقية إلى الإسلام؛ أما معد فهو البطن العظيم الذي تناسلوا منه، وكانت قبيلة كبرى ثم انشقت إلى فرعين: نزار، وقنص؛ وتفرعت نزار إلى خمسة فروع وهي: أنمار، ومضر، وقضاعة1 عند من لا يعدها من القحطانية، وربيعة، وإياد، وتحت كل فرع -من هذه الخمسة- قبائل كثيرة، إلا أن الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة ومن بطونها قريش ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبة، ومزينة؛ وتحت كل قبيلة بطون وأفخاذ بسط النسابون عليها الكلام في كتبهم ولا فائدة في استقصائه لمثل هذا الفصل؛ وسنلم بشيء من تاريخ تفرق القبائل ومنازلها عند الكلام على أولية الشعر العربي؛ فهناك موضع الحاجة إليه. 












مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید