المنشورات
أفصح القبائل:
وهذا فصل لا يؤخذ فيه إلا بأقوال الرواة الذين جمعوا اللغة وتلقوها عن أهلها؛ وذلك لتقادم العهد بزمان العرب؛ ولأن لغاتهم غير مميزة في التدوين حتى يعارض بعضها ببعض ويفصل بينها بطبقات من النظر يعلو إليها وينحدر عنها كما هو الشأن في التنظير والمقابلة بين المتفاضلات.
والفصيح عندهم ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم؛ لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليل على تحقق المناسبة الفطرية فيه.
وليس يخفى أن فصاحة العربي إنما هي عمل من أعمال الطبيعة المحيطة به، فإن كانت خالصة وإلا كثر في لسانه الابتذال والتنافر، كما تجد في لغات القبائل الضاربة إلى العراق واليمن والشام؛ وهذه أيضا تقرب أو تبعد من الفصاحة على نسبة مضبوطة باعتبار قربها وبعدها من ذلك الاختلاط الطبيعي1؛ فحقيقة الفصاحة أنها عمل تبتدئه الطبيعة وتكمله الوراثة، فإن وقع اختلال في أحد العاملين وقع مثله في العمل، على نسبة واحدة.
ومن قبائل العرب قوم لم يخرجوا من ديارهم، ويسمونهم الأزحاء؛ لأنهم أحرزوا دورًا ومياهًا فلم ينزحوا عن أوطانهم بل هم يدورون في دورهم كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضهم في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل؛ وهم ست قبائل: تميم بن مرة، وأسد بن خزيمة في مضر؛ وكلب بن وبرة، وطيء بن أزد في اليمن؛ وقبيلتان أخريان في ربيعة لم يذكروهما؛ ومنهم قبائل يسمونها الجمرات، لاجتماعهم2 على أن لا يخرجوا منهم إلى غيرهم ولا يدخلوا من غيرهم فيهم، وهم: بنو تميم بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض3.
وبالأرحاء والجمرات نستدل على أن الطبيعة العربية تتفاوت في الميل إلى العزلة والمخالطة، وهي بحسب ذلك أيضًا متفاوتة في خلوص المنطق وانتشابه.
ولسنا نريد المخالطة على إطلاقها، بل مخالطة الأعاجم خاصة، والمخالطة الدائمة على الأخص، وهي التي تكون في القبائل النازلة على حدودهم؛ وذلك عند العلماء هو الحد بين من ترتضى عربيته ولا من يوثق بلغته، حتى إنهم نصوا على أن نطق من ترضى عربيته بالشاذ الذي يخالف قياسهم لا يخل بفصاحته؛ لأنه لا بد من أن يكون قد حاول به مذهبًا أو نحا نحوًا من الوجوه التي يتأول عليها؛ وذلك لأن الجادة على غير ما جاء به فيكون ما شذ من منطقه مأمونًا عليه من فساد المخالطة؛ ولهذا يلحقونه بقياس القريحة الصحيحة.
وأفصح القبائل الذين هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، والعجز من هوازن الذين يقال لهم عليا هوازن1، وهم خمس قبائل أو أربع، منها: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر" وكان مسترضعًا فيهم, وهم أيضًا الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلي تميم2.
ولهذا كان لا يكتب في المصاحف برأي عمر وعثمان إلا كاتب ثقيف. وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد والحجاز وتهامة، وقد بقيت معادن الفصاحة العربية زمنًا بعد الإسلام، وإليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج البصرة فلقي الخليل بن أحمد وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسدًا وتميمًا وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة! فقال للخليل: من أين أخذت علمك؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج إليهم ولم يرجع حتى أنفذ خمس عشرة قنينة حبرًا في الكتابة عن العرب.
ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص المنطق وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة؛ وهذا الأزهري صاحب "تهذيب اللغة" المتوفى سنة 370هـ يقول في مقدمة كتابه: "لما وقعت في إسار القرامطة، وكان الذين وقعت في سهمهم عربًا، عامتهم من هوازن واختلط بهم أصرام من تميم وأسد.... يتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في نطقهم لحن ولا خطأ فاحش.... إلى أن يقول: واستفدت من مخاطبتهم ومحاورة بعضهم بعضًا ألفاظًا جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في مواقعها من الكتاب" ا. هـ.
أما القبائل التي اختلطت بغيرها فلم ينقلوا عنها ولا عدوها خالصة الفصاحة، فسنذكرها مع تفصيل لما تقدم عند الكلام على رواية اللغة إن شاء الله.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
10 ديسمبر 2024
تعليقات (0)