المنشورات

نظام القرينة:

وهو ما نسميه بالنظام البديع؛ لأنه في ظاهره نوع من الفوضى؛ وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه ويهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقًا غير مقيد بنظام، ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام؛ وذلك نظم ينفردون به ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور. وقد سماه علماؤنا "سنن العرب"، وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني من كتابه "فقه اللغة"، وسماه "سر العربية".
ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر؛ لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ؛ ولأن ما عرف للعرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه، إذ جعل من عبارته أزمة لعقولهم، فكان يلفتها فجأة عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزة من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه.
فمما ذكروه من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة: مخالفة ظاهر اللفظ، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هَبِلَته أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله؛ ومنها الحذف والاختصار، فيقولون: والله أفعل ذاك، ويريدون لا أفعل؛ فيحذفون حرف النفي؛ ومنها ذكر الواحد والمراد الجمع، كقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: 68] وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] والمراد الجماعة. وذكر الجمع والمراد واحد أو اثنان، كقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 66] وهو يريد واحدًا، وقوله في خطاب موسى وأخيه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النحل: 37] "والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ "* فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهما قلبان. ومنها صفة الجمع بصفة الواحد، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع، كقول العرب: ثوب أهدام، وجاء الشتاء وقميصي أخلاق1. ومنها أن تخاطب العرب الشاهد ثم تحول الخطاب إلى الغائب. وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع؛ وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] الخطاب الأول للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والثاني للمشركين. ومنها الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 13] أراد بكم، وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 21, 22] ومعناه: كان لهم، وقد جاء ذلك في الشعر أيضًا كما رواه ابن الأنباري في الأضداد. ومنها أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره، كقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] فخبر عن الأزواج بلفظ {يَتَرَبَّصْنَ} وترك الذين, ومنها نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19] وإنما يخرجان من الملح لا العذب, ونسبته إلى الجماعة وهو لأحدهم كقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] والقاتل واحد, وإلى أحد اثنين وهو لهما؛ كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين، كقول العرب: افعلا ذلك، ويكون المخاطب واحدًا، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعراؤهم أكثر الناس قولًا: يا صاحبي، ويا خليلي. ومنها أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماض، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، أي: يأتي {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تَلَتِ الشياطين. ومنها أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل نحو: سر كاتم، أي: مكتوم، وأمر عارف، أي: معروف، وبالفاعل: على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابنًا، ومنها وصف الشيء بما يقع فيه، كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا سهروه. ومنها البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أمن اللبس بقرينة تقتضي ذلك، كإقامة وزن الشعر وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء.
وليلة خامدة خمودًا ... طخياء تخشى الجدي والفرقودا
فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها:
"لو أن عمرًا هم أن يرقودا"
يريد يرقد. ومنها القبض محاذاة لذلك البسط. وهو النقصان من عدد الحروف كقولهم: لاه ابن عمك؛ أي: لله، ودرس المنا، أي: المنازل؛ ومنها الإضمار للأسماء والأفعال والحروف، كقولهم: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه، وقولهم: أثعلبا وتفر؟ أي: أترى ثعلبًا وتفر؟ وقوله طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أشهد الوغى يريد أن أشهد الوغي. منها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي: تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] أي: الفتنة. ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا بحذاء كلام فتؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضًا، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غَدَايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:
هتاك أخبية ولاج أبوية
فجمع الباب على أبوية ليشاكل لفظ الأخبية. ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتوروا تجاورًا، وتجاوروا اجتوارًا، وانكسر كسرًا وكُسِر انكسارًا، وعليه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] . ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقولهم: امرأة بادن أي: بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة، ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي: حسرها السير. وغلالة رادع، أي: مردعة بالطيب بالزعفران في مواضع منها، وقد أفاض صاحب "المخصص" في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى "الجزء 16".
ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفننًا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده بابًا في "المخصص" "الجزء 14".
ومنها أيضًا قلب الكلام تفننًا، كقول العباس بن مرداس:
فديت بنفسه نفسي ومالي
أي: فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:
ما كنت في الحرب العوان مغمرًا ... إذ شب حر وقودها أجزالها
وإنما هو: إذ شب حر وقودها أجزالها، ولكن روي القصيدة بالفتح. ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها؛ لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعيين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معانيه.
وبعد، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه "تمدن العرب اللغوي" وهو كما ترى يصح أن يكون غرضًا لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن يتعاون على إخراجه الفكر الصحيح والذهن الشفاف والفطنة الوقادة، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثم ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعر وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم؛ لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تخلق الأسرار، وتسدل عليها الأستار، فلا يرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار. 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید