المنشورات

انتشار اللحن:

ولما نشأ الجيل الثاني في الإسلام اضطربت السلائق، وذلك بعد أن كثر الدخيل وعلقته الألسنة لدورانه في المعاملات وتنزله من الاجتماع منزلة المعاني الثابتة، فانحرفت به ألسنة الحضر عن نهجها العربي، وخيف من تمادي ذلك على لسان العرب من الفساد؛ فوضع أبو الأسود الدؤلي أصول النحو؛ ثم كان الناس يختلفون إليه يتعلمونها منه، وهو يفرع لهم ما كان أصله -وسنأتي على ذلك في موضعه- ومن خشيتهم فساد اللسان، كانوا يأخذون أولادهم بالإعراب أخذًا شديدًا، حتى كان ابن عمر رضي الله عنهما يضرب بنيه على اللحن تقويما لهم.
ثم فشا النحو بعد ذلك وتناوله الموالي والمتعربون, وصار يعلم في المساجد، فانحصر اللحن القبيح الذي هو مادة العامية في الزعانف من الطبقات الوضعية، كالمحترفين وأهل الأسواق، وكان الخطيب البليغ خالد بن صفوان -توفي في أوائل الدولة العباسية- يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن "السقاءات"؟ فكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب.
واشتهر النحو وغيره من العلوم التي وضعت لذلك العهد بأنها علوم الموالي؛ فكان يرغب عنها الأشراف لذلك؛ وقد روى المبرد في "الكامل" أن المنتجع قال لرجل من الأشراف: ما علمت ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك "علم الموالي" لا أبا لك! علمهم الرجز فإنه يهرت أشداقهم. ومر الشعبي "سمير عبد الملك بن مروان" بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. وسنقول في الموالي بعد.
قال الجاحظ: وأول لحن سمع بالبادية: عصاتي، والصواب عصاي؛ وأول لحن سمع بالعراق؛ حيِّ على الفلاح، صوابه حيَّ؛ بالفتح1.
وفي الدولة المروانية العربية كان يعتبر اللحن من أقبح الهجنة؛ لأن العرب يومئذ كانوا لا يزالون على حميتهم الأولى، وكانت جماهيرهم تحضر مجالس الخلفاء والأمراء وتنادي كل طائفة منهم باسم قبيلتها، فيقال مثلًا: لتقم همدان، ولتقم تميم، ولتقم هوازن، ونحو ذلك؛ وهم يريدون من حضر من هذه القبائل؛ فكان عبد الملك يستسقط من يلحن، قال العتبي: استأذن رجل من عِلْيه أهل الشام عليه وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: يا غلام، غطها فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: يا غلام، اكشف عنها الغطاء؛ ليس للاحن حرمة. ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال: حَسَّ! -كلمة تقال عند الألم- إني لأجد حرارتها في حلقي, وقد أحصوا الذين لم يسمع منهم لحن قط في ذلك العهد، فعدوا منهم عبد الملك بن مروان، والشعبي، والحسن البصري، وأيوب بن القرية؛ وقال الحسن يومًا لبعض جلسائه: توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل؛ وكان هذا الجواب أبين عن فصاحته من الفصاحة نفسها.
وأحصوا اللحانين من البلغاء، فعدوا منهم خالد بن عبد الله القسري2 وخالد بن صفوان وعيسى بن المدور؛ وكان الحجاج بن يوسف يلحن أحيانًا. 

وقد كان بنو مروان يلزمون أولادهم البادية لينشؤهم هناك على تقويم اللسان وإخلاص المنطق، ومن أجل ذلك قال عبد الملك: أضر بالوليد حبنا فلم نوجهه إلى البادية! والوليد هذا ومحمد أخوه كانا لحانين، ولم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة؛ وذكروا أنه قيل للوليد يومًا: إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها، فجمع أهل النحو ودخل بيتًا ليتعلم فيه، فأقام ستة أشهر ثم خرج أجهل من يوم دخل, ومما نقلوا من لحنه أنه خطب الناس يوم عيد, فقرأ في خطبته: "يا ليتها كانت القاضية" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك!
وما صار الأمر إلى العباسيين حتى كانت العجمة قد فشت في الحضر وغلبت على السليقة وأصبحت السلامة من الحلن لا تتهيأ إلا بالتصون والتحفظ وتأمل مواقع الكلام، ولذا صاروا يشبهون اللسان الفصيح بأنه لسان أعرابي قح، وكانوا يمسون عثمان البتي النحوي "معاصر للأصمعي" عثمان العربي، من فصاحته واستقامة لسانه؛ ولكن أذى اللحن بقي ثابتًا في الغرائز القوية، حتى ذكروا أن الرشيد كان مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم؛ فقال يومًا: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرًا فيتغنون فيه؛ فقيل له: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال أبو العتاهية: فوجه إلي الرشيد أن قل شعرًا حتى أسمعه منهم؛ ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك؛ فقلت: والله لأقولن شعرًا يحزنه ولا يسر به, ثم عمل شعرًا رقيقًا في الموعظة والتذكير بانصراف الدنيا وانصرام لذتها، يقول فيه:
خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب ... إنما هن قروح
موت بعض الناس في الأر ... ض على قوم فتوح
نح على نفسك يا مسـ ... ـكين إن كنت تنوح
ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما سمعه الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة.
نقول: ولو أنا أبا العتاهية لم يطرح ظل نفسه على ذلك الشعر وقتئذ وعمل على أن يصيب حقيقة غرض الرشيد، لكان أول واضع في الإسلام للشعر الذي يسمى أغاني الشعب، ولجاء بعده من يأخذ في طريقه ويفتن فيها حتى توضح أغاني الشعب الاجتماعية والسياسية على حقيقتها، ويكون ذلك من أرقى أبواب الأدب العربي، ولكن ظل الشاعر كان في ذلك الغضب ثقيلًا باردًا كأنه قطعة من ظلمة حبسه، أو كأنه ظل شيطاني لا ينبسط إلا ليطوي الأشعة المنبعثة من الأفكار الصالحة1. 

وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا علي بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته؛ لأنه يعرف في الإعراب، وعلي هذا كان كاتبًا في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق:
دخل مرة سوق الدواب، فقال له النخاس: هل من حاجة؟ قال: نعم؟ أردت فرسًا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخبط بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال النخاس: هكذا كان فرسه صلى الله عليه وسلم!
وكان مثل هذا التقعر خاصا بجفاة الأعراب ممن يطرءون من البادية، فلما فشا اللحن ولانت جوانب الكلام، أخذ في طريقهم جماعة من النحويين، فكانوا يبالغون في التقعير والتعقيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، يريدون بذلك أن يتبادَوْا في الحضريين ليكونوا أعرابهم، فكانت هذه الأعرابية الكاذبة تمثيلًا مضحكًا عند العامة، وثقيلًا مبغضًا عند العلماء. ومن أشهر أولئك: عيسى بن عمر الثقفي، وهو رأس المتقعرين وفاتحة تاريخهم "توفي سنة 149هـ"، وأبو علقمة النحوي، وأبو خالد النميري، وأبو محلم الراوية، وغيرهم، ومن أثقل ما رأينا في التقعير، هذا الكتاب الذي كتبه أبو محلم "في أواخر القرن الثاني" إلى بعض الحذائين، في نعل كانت له، وهذه عبارته كما رواها القالي في أماليه:
"دِنها، فإذا همت تأتدن فلا تخلها تُمَرْخِد، وقبل أن تقْفعِل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وَكِبة ولا جَشِبة، ثم امعسها معسًا رقيقًا، ثم سن شفرتك وأمهها، فإذا رأيت عليها مثل الهوة فسن رأس الإزميل، ثم سم بالله وصل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انحها وكوف جوانبها كوفًا رقيقًا، واقبلها بقبالين أخنسين أفطسين غير خليطين ولا أصمعين، وليكونا وثيقين من أديم صافي البشرة غير نَمِش ولا حَلم، ولا كَدِش، واجعل في مقدمتها كمنقار النغر1".
لا جرم عد أمثال هؤلاء في الثقلاء؛ لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطبة الأعراب الفصحاء.
وقد ألف أبو الفرج النحوي المتوفى سنة 499هـ كتابًا جمع فيه أخبار المقعرين وساق نوادرهم.
على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بلْهَ المتقعرين، ولا الرواة أيضًا، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها. 

وقد ألف عمر بن شبة النحوي الراوية المتوفى سنة 262هـ كتابًا فيمن كان يلحن من النحويين إلى عهده. واستمرت العامية فاشية بما كثر من أسبابها وتوفر من وسائلها، ولم يغن الخلفاء ولا الأمراء اتخاذ المؤدبين لأولادهم يقومون ألسنتهم ويأخذونهم بالفصيح، واندفع الناس في ذلك، وخاصة بعد أن فسدت سلائق الأعراب أيضًا في القرن الخامس كما سيجيء؛ وكلما تقدمت البلاد في مذاهب الترف وتقلبت في أعطاف الرقة، بلغت مثل ذلك من العامية، حتى صارت الأندلس -وهي التي انفردت بمشاهير النحاة الذين أعادوا عصر الخليل وسيبويه1- تكاد تكون عامية محضة؛ وقد نقل صاحب "نفح الطيب" أن الخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو: استثقلوه واستبردوه!. 











مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید