المنشورات

فساد اللغة في البادية:

هذا ما يحضرنا من تاريخ اللحن في الحضر، حيث توفرت أسبابه من الاختلاط والملابسة؛ أما في البادية فقد بقيت اللغة على خلوصها إلى آخر القرن الرابع، على ما يكون من الاختلاف الذي لا بد منه بين طبائع الأعراب كما أومأنا إليه فيما سبق.
وقد حكى ابن جني في "الخصائص" أنه كان يرد عليهم من عقيل بن يؤنس ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وابن جني توفي سنة 292هـ وكلامه في "الخصائص" يشعر أن ألسنة البدو يومئذ بدأت تضطرب حتى كان ينبه بعضهم بعضًا إلى الصواب، وحتى ظهر في بعض طوائفهم شيء من مرذول القول؛ قال: وقد طرأ علينا مرة أحد من يدعي "الفصاحة البدوية" ويتباعد عن الضعفة الحضرية؛ فتلقينا أكثر كلامه بالقبول وميزناه تمييزًا حسن في النفوس موقعه، ثم ذكر أن هذا البدوي ركب في بعض شعره قياسًا غير صحيح، وتكرر منه ذلك، فطرحوا لغته، قال: وكان من أمثل من رأيناه ممن جاءنا.
على أن اختلاف طبائع الأعراب قديم؛ لأنهم يرثونه عن سلفهم وأوليتهم، وقد يكون من ضعف تلك الطبائع ما يعده الثقات فسادًا، لانحطاطه في الفصاحة، لا لأن فيه لحنًا؛ إذ العلماء إنما يطلبون فصح اللغة ويقدرون الأعراب على حسب ما عندهم من ذلك. وقد ذكرنا في الكلام على "أفصح القبائل" من نصوا على قوة الفصاحة فيهم بعد الإسلام، أما الضعاف الذين يوجه ضعفهم على جهة ما أشرنا إليه فلم نقف على نص يعين قومًا منهم، إلا ما ذكروه عن أعراب الحُلَيْمات1 فقد روى العسكري عن أبي زيد أن الكسائي المتوفى سنة 189هـ بعد أن أخذ العلم الصحيح عن أساتذة البصرة، خرج إلى بغداد، فقدم أعراب الحُلَيْمات، وهم غير فصحاء فأخذ عنهم شيئًا فاسدًا فخلط هذا بذاك فأفسده: وهذا الفساد ظاهر المعنى كما ترى.
ولم نعثر على نص يثبت خلوص لغة الأعراب فيما وراء القرن الرابع: ولا يمكن أن يكون ذلك مع اضطراب الفتن واستعجام الدولة وغلبة العامة وانقطاع حاجة العلماء إلى عربيتهم الفطرية، ودروس معاهد الرواية ثم فُشوّ الاختلاط بين العرب وعامة الأمصار كما سيمر بك، وخاصة في الحجازيين منهم، حيث يختلف إليهم الحجيج من جميع الآفاق، غير أننا رأينا في "معجم البلدان" لياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ في لفظ العكوتين "تثنية عكوة: وهو اسم جبلين منيعين مشرفين على زبيد باليمن" قوله: ومن أحدهما عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، من موضع فيه يقال له الزرائب ... 

وقال الزاجر:
إذا رأيت جبلي عكاد ... وعكوتين من مكان باد
فأبشري يا عين بالرقاد
قال: وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب، وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم: لم تتغير، بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحضارة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه.
ثم رأينا في "القاموس" لمجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى بمدينة زبيد سنة 817هـ في مادة "ع ك د" أن عكاد جبل باليمن قرب مدينة زبيد "وأهله باقية على اللغة الفصيحة"؛ وقد زاد شارحه مرتضى الزبيدي -أقام بمدينة زبيد مدة طويلة فعرف بهذا اللقب- المتوفى سنة 1205هـ قوله: "إلى الآن"، ثم قال: ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفًا على لسانهم.
ولا يعرف قوم خلصت لغتهم غير أولئك العكاديين؛ وعبارة ياقوت تدل على أنه لم يكن يعرف في زمنه غيرهم أيضًا، على أن لسان البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب لا يزال إلى اليوم أكثر شبهًا بالفصيح من بعض الوجوه دون غيرهم من سائر العرب، وأظهر ما يكون ذلك على ما تبينه الرواد في سكان حارب وبيحان. وكذلك يقال في قبائل فهم وقحطان في الحجاز: إنهم أكثر انطلاقًا في الألسنة من سائر عرب الشمال، والله أعلم. 












مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید