المنشورات
طبائع الأعراب:
بقي أن نذكر شيئًا عن طبائع الأعراب الفصحاء الذين كانوا يطرءون على الحضر فتؤخذ عنهم اللغة؛ لأن العلماء كانوا إذا وجدوا منهم من يفهم اللحن وعلل الإعراب بَهْرَجوه وزيفوا طبعه وطرحوا لغته؛ كما يفعلون بمن لم يخلص منطقه وبمن يرق طبعه وتضعف فصاحته، لإغراقه في علل الحضارة وأسبابها، فقد ذكروا أن أبا عمرو بن العلاء "توفي سنة 154هـ" استضعف يومًا فصاحة أبي خيرة العدوي الأعرابي، فسأله: كيف تقول: حفرت الإران؟ فقال: حفرت إرانًا. فقال له أبو عمرو: ألان جلدك يا أبا خيرة حين تحضرت1! وهكذا كانوا: إذا ارتابوا بفصاحة أعرابي وظنوا أن جلده قد لان وذهب جفاؤه الذي يعدونه مادة الفصاحة، وضعوا له قياسا غير صحيح وسألوه عنه, فإن نطق به طرحوه, وإلا كان عندهم بتلك المنزلة, وإنما يعمدون إلى الأقيسة غالبًا؛ لأن قياس العربي قريحته كما بيناه من قبل، والقريحة مظهر الفطرة؛ قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو يقول: ارتبت بفصاحة أعرابي فأردت امتحانه، فقلت بيتًا وألقيته عليه، وهو:
كما رأينا من "مسحب" مسلحب ... صار لحم النسور والعقبان
فأفكر فيه ثم قال: ردّ علي ذكر "المسحوب"، حتى قالها مرات، فعلمت أن فصاحته باقية2. ولا تجد الأعرابي ينطق بمثل هذا إلا إذا ضعفت فصاحته وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.
قال ابن جني: سألت مرة الشجري -وهو أعرابي من عقيل كانوا يرجعون إليه في اللغة -ومعه ابن عم له دونه في الفصاحة، وكان اسمه غصنًا- فقلت لهما: كيف تحقّران حمراء؟ فقالا: حُمَيْراء. وواليت من ذلك أحرفًا وهما يجيئان بالصواب، ثم دسست في ذلك عِلْباء، فقال غصن: عُلَيْبَاء، وتبعه الشجري؛ فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور، ثم قال: آه عَليْبيّ3.
وقال في موضع آخر من "الخصائص": سألته يومًا -يعني الشجري- كيف تجمع دُكانًا؟ فقال: دكاكين. قلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين.. قلت: فعثمان؟ قال: عثمانون، فقلت له: هلا قلت عثامين؟ قال: أيش عثامت؟ أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته؟
كذلك نقل عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني "توفي سنة 255هـ" في كتابه الكبير في القراءات، وقال: قرأ علي أعرابي بالحرم: "طِيبي لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب" فقلت له: طوبى ... فقال: طيبي، فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبي؛ فلما طال علي قلت: طُوطُو ... فقال: طي طي ... وهكذا نبا طبع هذا الأعرابي إلا عن لحن قومه وإن كان غيره أفصح منه، ولو يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه هز ولا تمرين!
على أن طبع العربي قد يجذبه إذا توهم القياس، ومن ذلك ما رواه صاحب "الأغاني" أن عمارة بن عقيل الشاعر "في القرن الثالث وهو الذي يقال إن الفصاحة ختمت به في شعراء المحدثين"1 أنشد قصيدة له جاء فيها "الأرباح والأمطار" فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبيعي ... أما تسمع قولهم رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك! قال: صدقت! ورجع إلى الصحيح, وقبله كان الفرزدق يلحن، وكان عبد بن يزيد الحضرمي البصري مغرى باعتراضه ونسبته إلى اللحن الحضري، حتى هجاه بقوله:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى المواليا!
فقال له الحضرمي: لحنت.. ينبغي أن تقول: مولى موال، والفرزدق هو القائل:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف2
قال ابن قتيبة: وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يرتضى, ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه؛ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: علي أن أقول وعليك أن تحتجوا ... !
وبعد أن فشت العامية وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة بسؤالهم من الرواة والعلماء، وكذلك كانوا لا يخاطبون العامة إلا بمحضرهم ومساعفتهم في "الترجمة"؛ والآثار من ذلك كثيرة نكتفي منها بما رواه الجاحظ في "البيان"، قال: رأيت عبدًا أسود لبني أسد قدم عليهم من شق اليمامة، فبعثوه ناطورًا، وكان وحشيًا لطول تغربه في الإبل، كان لا يلقى إلا الأكرة "الحراثين"، فكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إلي، وسمعته يقول: لعن الله بلادًا ليس فيها عرب.... أبا عثمان، إن هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس؛ فئلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حاشية لطمست هذه العجمان آثارهم!
وقد بقيت أشياء مما يصلح لهذا الباب أمسكنا عنها حتى يقتضيها مكانها في بحث الرواية.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)