المنشورات
شيوع اللغة العامية وفساد العربية:
كانت العامية في الأمصار الإسلامية أول عهدها لحنًا صرفًا، لما بقي في أهلها من آثار السليقة؛ على حساب هذه الآثار كانت درجاتها في القرب من الفصيح والبعد عنه؛ فكانت لا تزال قريبة من الفصحى في عوام الحجاز والمصرين: البصرة والكوفة، إلى القرن الثالث، حتى عرف بعضهم المولد بأنه ما يكون من هذا الضرب لحنًا وتحريفًا كما أومأنا إليه من قبل.
وقد ذكر الجاحظ لغة أهل المدينة لعهده، فقال: إن لهم ألسنة ذلقة، وألفاظًا حسنة، وعبارة جيدة.... ثم قال: "واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب".
أما العامة في الشام ومصر والسواد، فقد علقوا ألفاظًا كثيرة من الفارسية والرومية والقبطية والنبطية، فسدت بها لغتهم فسادًا كبيرًا؛ لأنهم خلطوها بها خلطًا، ولم يجانسوا بين الأصل والدخيل، وليس يخفى أن أكثر ما تقتبسه العامية إنما هو من الأسماء، وأن اقتباس الصفات فيها قليل؛ لأن الأسماء هي في الحقيقة أدوات الاجتماع، والعوام إنما يلتمسون التعبير والإبانة كيفما اتفق لهم هذا الغرض، ولقد كانت الشام ومصر وسواد العرب أوفر خصبًا وأكثر عمرانًا من سائر الأمصار الإسلامية، فمن ثم كان عوامها أسقط ألفاظًا. وقد رأينا العلماء يصفون اللفظ العامي الساقط المبذوء وما يدخل في باب الرطانة من ذلك، بالسوقي -نسبة إلى السوق- لا يتجاوزون هذا الوصف؛ لأنه أبين في الدلالة في الفساد والابتذال؛ ولأن الأسواق لا تعنى من أمر الجيد والزيف إلا بألفاظ لغة الأرزاق "الدراهم" ... وهي بعد مجامع العامة على تباين أجناسهم، ومعارض الأشياء على اختلاف جهاتها، وقد قلنا في اللغات التجارية التي لا قوام لها من نفسها، وتلك حقيقة لغات الأسواق.
ورأينا العلماء ألفوا كتبًا "فيما تلحن فيه العامة" ككتاب أبي عبيدة، وأبي حنيفة الدينوري، وأبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكتاب "الفاخر في لحن العامة" للمفضل بن سلمة، "ولحن العامة" للفراء1، وكل هؤلاء لا يتجاوزون المائة الثالثة، ولا يعدون في صنيعهم أن يوردوا ألفاظًا من الفصيح حرفتها العامة، ثم يذكرون أصلها على صحته، وذلك يدل على أن العامية لم تكن طغت على الكلام، وإلا لما أمكن حصر ما يلحن فيه أهلها، بل لما كان لهذا الحصر معنى لا في القليل ولا في الكثير.
أما بعد القرن الثالث فكان يؤلف في "لحن الخاصة" كالكتاب الذي وضعه أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ وسماه "لحن الخاصة" وكتاب الحريري المسمى "درة الغواص، في أوهام الخواص" وقد وضع له الجواليقي تتمة؛ لأن اللحن بعد ذلك إنما كان يؤاخذ به خواص العلماء والأدباء -في كتابتهم لا في أقوالهم- أما العامة فكانت مناطقهم كما قلنا: لغة في اللحن لا لحنًا في اللغة!
ومما أعان على فصاحة العامية في صدر الإسلام، قيام الدولة الأموية العربية، وديانة العرب فيها بالعصبية، إلى سقوطها، حتى إن الموالي -وهم من الأوشاب والزعانفة في رأي العرب يومئذ لاحترافهم وخدمتهم إياهم كانوا يسمونهم بالحمراء1- أقبلوا على النحو والعلوم وأولعوا بها، حتى خرج منهم فقهاء الأمصار جميعًا في عصر واحد؛ ولولا خوفهم معرة اللحن ما ثبتوا على ذلك؛ لأنه إن كانت العرب قد أبقت عليهم فلأن خطبهم في ذلك لم يستفحل.
فلما جاءت الدولة العباسية وكان قيامها بنصرة الفرس -وخصوصًا أهل خراسان، حتى لقبوها بالدولة الخراسانية الأعجمية- ضعفت العصبية للعرب بما سكن من سورتهم وفثئ من حدتهم؛ فكان ذلك فتقًا في العربية أيضًا؛ ولم ينتصف القرن الثالث حتى اختلط العرب بالفرس والترك والفراعنة وغيرهم من طبقات الأعاجم الذين اتخذوا للدولة، وكان ذلك بدء شيوع الألسنة الحضرية التي هي لهجات العامية.
والبعد عن اللسان -كما قال ابن خلدون- إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغتة عن ذلك اللسان الأصلي أبعد؛ لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم، وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه، يبعدون عن الملكة الأولى. قال: واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق: أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل؛ فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة، والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه؛ فهي عن اللسان الأول أبعد، وكذا المشرق: لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولًا ودايات وأظآرًا ومراضع، فسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى، وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة، وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضًا بعضها بعضًا.
ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب "منذ القرن الرابع" وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية -فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحًا لبقاء العربية المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلًا بالأمصار؛ فلما ملك التتر والمغل بالمشرق "في النصف الثاني من القرن السابع" ولم يكونوا على دين الإسلام، ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلًا يقع تعليمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من كلام العرب. قال ابن خلدون. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالبًا لها، فانحفظت ببعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق لها أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي؛ وكذا تدريسها في المجالس.
لهجات العامية وأسباب اختلافها:
وقد اختلفت لهجات العامية اختلافًا بينًا، ونهجت في كل مصر من الأمصار منهجًا متميزًا؛ بل هي قد جرت في ذلك مجرى اللغات المقتطعة من أصل واحد، كالعربية والعبرانية والسريانية، وكاللغات المشتقة من اللاتينية ونحوها مما هو من تكوين الزمن، وليس يخفى أن صنعة الزمن إنما تجري على المباينة والتنويع، ومدارها على إضافة الأعمار التاريخية في المصنوعات بحيث لا تنقطع الصنعة ما دامت لها مادة في الوجود؛ وذلك متحقق في كل ما ترى فيه آثار الزمن من أرقى أنواع الإحياء، كتكوين الأمم والأخلاق والعادات إلى أدنى أنواع الجماد كالجبال وغيرها؛ فالجبل من ذرات مجتمعة، والأمم كلها من أصل واحد، واللهجات العامية كافة من العربية الفصحى؛ ولكن الزمن لم يحفظ في الجميع إلا نسبة المادة فقط، فكأن كل يوم من الدهر إنما هو عامل مستقل يترك تأريخ عمله في كل الموجودات.
وإنما اعتبرنا اللغات العامية بسبيل الأعمال الزمنية؛ لأنها مطلقة غير مقيدة بالقيود الثابتة، كالكتابة والقواعد العلمية، ونحوها، مما يعتبر حدا للعمر التاريخي؛ فإن ما كتب لا يتغير، وما لا يتغير فقد فرغ منه الزمن؛ لهذا لا يمكن أن تكون اللغات العامية مستقرة على حالة واحدة في كل مصر من الأمصار من عهد نشأتها، بل لا بد من تغيرها في المصر الواحد جيلًا بعد جيل، ولولا هذا التغير ما تباينت في الجملة؛ لأن جميعها راجع إلى لغة واحدة وهي العربية الفصحى؛ وإذا أردت أن تعتبر ذلك فالق رجلًا من المعمرين في العامة، فإنك تلقى فيه تأريخ طبقتين أو ثلاث من هذا التغير اللغوي.
وليس يمكن ألبتة تأريخ هذا التغير في الشعوب التي تنطق باللهجات العامية على وجه من التفضيل وضرب واضح من البيان؛ لأن هذه اللهجات غير معروفة، وقد جهدنا كثيرًا في البحث فلم نعرف أن أحدًا نقل منها أمثلة في أدوارها الماضية؛ لأنها لغة الحاجة الراهنة، فلا يتصرف فيها بالتفنن في العبارات وتشقيق الألفاظ وما إلى ذلك مما ذهب الفصيح بمزيته؛ إلا ما يكون في بعض آدابها: كالموالي، والزجل، والشعر البدوي، وغيرها؛ وهذه الأنواع كلها يتوخى فيها أقرب الوجوه إلى الفصيح، وأكثر القائمين عليها من الفصحاء، وإنما يأتون بها تفننًا في وجوه الكلام. وقد وقفنا على أشياء كثيرة منها في عصور مختلفة إلى عصرنا هذا، فلم نر بينها على تباين جهات القائلين إلا فروقًا قليلًا في الصيغ العامية، وألفاظًا نادرة من اللغة البلدية، كان أكثر ما أصبناه منها في ديوان ابن قزمان الأندلسي "رأس الزجالين كما سيجيء في بابه" على أن شعر البدو وحده يمتاز بتصوير اللهجة البدوية.
بيد أننا وقفنا على قاعدة واحدة من قواعد عامية شرق الأندلس في القرن السادس، وهي مثال من شذوذ التصرف العامي الذي أومأنا إليه. قد نقل السيوطي "في بغية الوعاة" في ترجمة الحافظ أبي محمد بن حوط الله المتوفى بغرناطة سنة 612هـ في تفسير هذا اللقب "حوط الله": قال ابن عبد الملك: كأنه مصدر حاط يحوط مضافًا إلى الله تعالى ... "وذكر شيخنا أبو الحكم أن أصله حوطلة، مصغر حوت مؤنث على لغة شرق الأندلس؛ فإنهم يفتحون أول الكلمة من نحو: الحوت والسعود وينطقون بالتاء طاء -فيقولون في حُوت: حَوط- ويلحقون آخر المصغر لامًا مشددة مفتوحة في المؤنث مضمومة في المذكر، وهاء ساكنة؛ فيقولون في تصغير حوت: خَوْطلّة، وحوْطلّه".
فمن الذي يسمع "حَوطلُّه" في هذه الأيام، ويفهم أن المراد بها تصغير حوت؟ وقس على هذه الطرفة الغريبة ما لا سبيل إلى العثور عليه.
وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته ما لا سبيل إلى العثور عليه.
وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته يرجع إلى أربعة أسباب:
1- وراثة المنطق: فإن التقليد في حكاية اللغة أصل طبيعي في الإنسان ولما بدأ الفساد والاضطراب في كلام أهل الأمصار، كان أهل كل مصر يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب1. قال الجاحظ: ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر ... قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة في أهل مكة، فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم. أنتم تسمون القدر برمة، وتجمعونها على برام، ونحن نقول قِدر، ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 11] وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علِّيَّه وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة، ونجمعها على غرفات؛ وقال الله تبارك وتعالى: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: 20] وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] .. إلى أن عد عشر كلمات.
فحكاية الألفاظ واقتباس الأخف من اللغات -وإن كان أضعف وأقل استعمالًا في أصل اللغة- هو من خواص العامة: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، فضلًا عن أن يحكموا اللهجات العربية نفسها، كما وهم بعضهم في استدلال بالمنطق على النسب، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه.
وكذا يقال في حكايتهم ألفاظ الأعاجم؛ كالذي كان في لغة أهل المدينة مما علقوه من الفرس النازلين بهم، وفي لغة البصرة إذ نزلوا بأدنى فارس وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الكوفة إذا نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الشام إذ كانوا من بقايا الروم، وفي لغة مصر إذ كانوا من بقايا القبط؛ وكذلك في لغة الأندلس والمغرب؛ وهذا أيسر أسباب الاختلاف التي أشرنا إليها.
2- علل الوراثة وطبيعة الإقليم: وذلك أن الناس يختلفون اختلافًا طبيعيا في كيفية النطق بما يكون في ألسنتهم من عيوب الوراثة: كاللفف، واللجلجة، والغمغمة، وما إليها؛ وبذا تختلف الكلمة الواحدة باختلاف الناطقين بها، حتى كأن فيها لغات كثيرة وهي لغة واحدة؛ وهذا فضلًا عن أن اللغات الأعجمية: كالفارسية والرومية والنبطية ونحوها؛ تصنع الألسنة على طرق متباينة بما فيها من التباين في المنطق بحسب الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها مما يكون في اللغات كزّا أو دِمثًا بحسب الأقاليم، حتى كأنه صورة ما بين الأمكنة من التباين الطبيعي؛ إذ اللغة صورة نفسية للإنسان، والإنسان صورة نفسية للإقليم.
وعلى هذا تجد منطق الإنجليزي لعهدنا ... كأنه نفخ آله تدار بالفحم الحجري ... وتكاد تحسب منطق الفرنسوي غناء موسيقيا؛ وهكذا مما لو تدبرت حقيقة الاختلاف فيه لرأيتها دلالة طبيعية على اختلاف الأقاليم، كأن الطبيعة تَسِم الألسنة كما تَسِم الوجوه، وكأنها مصنع إنساني فلا يخرج منه كل إنسان إلا برقمه وسمته؛ ولهذا السبب صارت كيفية النطق كأنها تنتشئ لغة أحيانًا، وصارت اللهجات العامية تختلف في المصر الواحد بل في البلدين المتجاورين، كما تراه في سوريا ومصر، وكما حدثوا به عن عرب تونس، فإن كل قبيلة هناك على ما يقال تتميز بخواص منطقية، حتى كأن كلام الواحد منهم انتساب صريح لقبيلته.
ومما لا نشك فيه أن العرب أنفسهم كانوا يعرفون تأثير الإقليم على فصاحتهم، ويعتبرون اختلاف ألسنتهم بهذا السبب. وقد وقفنا على ثَبَت لذلك، وهو ما رواه القالي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: لقيت أعرابيا بمكة، فقلت له: ممن أنت؟ قال: أسدي. قلت: ومن أيهم؟ قال: نهدي. قلت: من أي البلاد؟ قال: من عُمان. قلت: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنا سكنا قطرًا لا نسمع فيه ناجخة التيار1. قلت: صف لي أرضك. قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صردح، ورمل أصبح2. فكأنه أراد أن لغته إنما جانست هذه الطبيعة في نقائها جفائها، فمن ثم كانت فصيحة خالصة.
3- الإعراق في العجمة: فإن العجمة تصنع اللسان كما قلنا؛ ولذلك فهو إذا تناول الألفاظ العربية أداها على الوجه الذي يستقيم له وإن كان معوجًا وتصرف فيها بالحذف والقلب والإبدال، ومزجها بمادة العجمة حتى تنقلب إلى رطانة أو ما يشبهها, ولذا قال ابن خلدون: ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مُضَر، قصّر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية حصول ملكتها، لتمكن المنافاة حينئذ. قال: واعتبر ذلك في أهل الأمصار، فأهل أفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم.
ولقد نقل ابن رشيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: "يا أخي ومن لا عدمت فقده ... أعلمني أبو سعيد كلامًا أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعافنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج، وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلًا ليس من هذا حرفًا واحدًا، وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله"1.
"هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيه ما ذكرنا؛ وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد "سنة 779هـ" ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف، وأكثر ما يكون فيه الشعراء طارئين عليها..... وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظمًا ونثرًا ... وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية "في القرن الخامس" وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص ذلك، شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض ... وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، "بما هم عليه من معاناة علوم اللسان" ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلًا للغة أهل الأندلس. والبربر في هذه العدوة هم أهلها ولسانهم لسانها، إلا في الأمصار فقط، وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم، بخلاف أهل الأندلس ... ".
قلنا: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جشأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
قال: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جسأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
ومما يجري مجرى الإعراق في العجمة، ضعف اللسان ورخاوته بحيث لا يحتمل الكلمات التي تتألف من أحرف كثيرة، أو تكون مركبة تركيبًا غير مستخف، فيحصل الذهن من الكلمة صورة مجملة تتركب من أخف أحرفها، ثم تصاغ عن طريقتي القلب والإبدال بحيث تخرج كأنها وضع جديد، وأكثر ما تصيب أمثلة ذلك في لغات الأطفال وألفاف العوام الذين لا مران لهم على تصريف الكلام والتقلب في فنونه، وإذا التمست ذلك في كلامهم أصبت كثيرًا من أمثلته، وتراهم فيه يختلفون ضعفًا وقوة، فلا بد أن تكون طائفة من ألفاظ العامية قد جرت في أصلها على هذا الوجه.
4- مخالطة الأعاجم: وهذا السبب مما ينوع مادة العامية تنويعًا محدودًا؛ لأنه مقصور على ما يقتبسه أهل الأمصار ممن يلابسونهم من الأمم المستعجمة، كأسماء الأدوات ومرافق الحياة ونحو ذلك مما لا أصل له في مواضعاتهم واصطلاحهم، وهو الدخيل بعينه إلا أن العامية تحيله إليها وتلحقه بمادتها كيف كان ما دامت لها حاجة إليه -وهي لغة الحاجة كما قلنا- فإذا مضى وقته أو انقطع سببه أهملته فتنزل منها منزلة الألفاظ المماتة، وذلك كأسماء الثياب التي كانت مستعملة في مصر لعهد المماليك مثلًا وما يجري مجراها من الألفاظ الفارسية والتركية والكردية وغيرها.
بيد أن الأمصار تختلف في هذا الاقتباس أيضًا بحسب الأسباب الثلاثة التي قدمناها، فمنها ما لا يتناول أهله إلا الألفاظ التي تمس إليها حاجتهم ثم يصقلونها ويعربون عجمتها ويخففون من غرابتها بما استطاعوا من المجانسة؛ وهؤلاء هم الذين بقيت لغتهم أقرب إلى العربية، كأهل مصر.
ومن أهل الأمصار من يذهبون في ذلك مذهبًا وسطًا لتكافؤ تلك الأسباب فيهم، كعامة الشام؛ ومنهم من يأخذ في ذلك كل مأخذ، كأهل طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش، على تفاوت قليل بينهم؛ فقد أثبت الذين عنوا بدراسة هذه اللغات من المستشرقين1 أن الجزائريين ينقلون الألفاظ الفرنسوية أقبح نقل، حتى ليتعذر أحيانًا ردها إلى أصولها "وفي لغتهم ألفاظ تركية أيضًا، وقليل من الإسبانية والإيطالية" وإن في منطق التونسيين كثيرًا من الألفاظ الفرنسوية والتركية والإيطالية، وأن عامية المراكشيين خليط من العربية والبربرية والفرنسوية والإيطالية والإسبانية.
وجماع القول إنه لا بد من المجانسة الطبيعية في اقتباس الدخيل؛ فكلما رقت عذبات الألسنة ولانت جوانبها، كان الدخيل بحسب ذلك في منقطها؛ ومن ثم لا تسرف فيه بل تقف منه عند حد الحاجة. ولقد رأينا رجلًا من المعمرين في بعض القرى المصرية لا ينطق لفظة "البوليس" للشرطة إلا هكذا: "البلوص"، ولا يرجع عن لحنه مهما راجعته؛ لأن البلوص في اصطلاحهم "بلوص الزمارة، وهو هنة من القصب تشق على وجه معروف ثم توضع في رأس اليراع المثقب" فكأنه استروح لهذا الوضع الثابت في لغته فألحق به الوضع الطارئ عليها وترك تعيين الدلالة للقرينة, وبخلاف ذلك ترى الدخيل في المناطق الجاسية والألسنة الكزة كما أشرنا إليه.
وقد بقيت عامية البدو أقرب إلى الفصيح من سائر اللهجات، لقلة مخالطتهم للأعاجم، ولا يزالون على حيال لغات آبائهم إلا في الزيغ عن الإعراب، وإلا في ملكة الوضع ونظام اللغة1 ولهم في عاميتهم المحافل والمجامع والخطباء والشعراء؛ وقد اعتبر ابن خلدون تغير ألسنتهم من قبيل ما تغير في لسان مضر عن موضوعات اللسان الحميري "أي: تغيرًا قياسيا في الملكات"؛ وذلك بعض ما وهم فيه، وإنما استدرجه الغلو في الرد على "خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق" كما يقول، حيث يزعمون أن البلاغة لعهده قد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانيه إلخ. وإنما نظر النحاة إلى معنى كمالي في الطبيعة، ونظر ابن خلدون إلى الطبيعة في معناها؛ فإن اللغة من الملكات المتوارثة، وشرط الكمال في الوراثة ارتقاء النوع وتحسينه، إذا كان العرب قد ورثوا لغتهم ثم أضافوا إليها أسبابًا كثيرة من معاني الكمال وورثوها أعقابهم فنقص هؤلاء من كمالها ونكروا من محاسنها، أفلا يكون ذلك خليقا بأن يسمى فسادًا باعتبار المعنى الكمالي وإن كان عن أسباب طبيعية ثابتة.
ولما تعطلت ألسنة البدو من الإعراب تصرفت في الكلام على غير نظام، فاختلفت من ثم لهجاتهم، حتى لتسمع العربي منهم فيغطي منطقه عندك على ما يعطيه كلامه؛ فإذا هو فصل ألفاظه رأيتها عربية صريحة؛ وقد سمعنا بعض شعرائهم من المعاصرين ينشد في رثاء الحسين عليه السلام شعرًا بدويا مطلعه:
تمنتن بلفين فوق احصنا ... يوم كربلا وونجيه قبل الجنا
وألقى الشطر الأول متلاحق الكلمات مختلس الحركات فلم نفهم منه شيئًا حتى كشف لنا عن معناه، فإذا "تمنيتني بألفين فوق أحصنة" يريد نجدة الحسين عليه السلام بفرسانه قبل أن يستشهد؛ وانظر أين ما نطق مما أراد، وبهذا تتبين ما قدمناه، من أن كيفية النطق قد تنشئ لغة أحيانًا.
هذا ما نراه في أسباب اختلاف اللغات العامية، وهي في جملتها تاريخ طبيعي لهذا الاختلاف، غير أن كل سبب منها في تفصيله يحتمل أبحاثًا مستفيضة بما يلتمس له من الأمثلة في اللهجات المتباينة على كثرتها، ثم ما يستقصى مع ذلك من حوادث التاريخ الاجتماعي التي أنشأت اللغة إنشاء وجعلت لها في كل مصر معنى متميزًا، وفي كل بلد هيئة مقومة وصفة بينة، حتى كأن لغة الأمة على الحقيقة أمة من اللغة.
ومما ننبه عليه أن العربية الفصحى مدنية معنوية لم تبرح قائمة على تحرير هذه اللهجات العامية وتهذيبها كلما خالطتها في التعليم والقراءة -فإن ميراث العامة إنما يثبت في الأميين- واعتبر ذلك في البلاد التي تفتح فيها المدارس وتنشر الصحف وتبث المؤلفات؛ فإنك ترى عامية أهلها تتفصح على نسبة مطردة بما يلين من حواشيها ويرق من جوانبها ويستأنس من غريبها؛ وهذا هو السبب في رقة لهجات الحواضر لعهدنا دون ما يجاورها من القرى، ثم في تفاوت لهجات بعض القرى الكبيرة، ثم في اخلاتف اللهجة في أهل القرية الواحدة؛ حتى لقد تجد لهجة الرجل أرق وأعذب من لجهة زوجه وأولاده، ثم تجد مذهبه من ذلك غير مذهب جاره وصاحبه؛ ولا يكون السبب في هذا التفاوت غير صحيفة يقرؤها كل يوم، فقد بدءوا يرجعون إلى شأن "عامة التاريخ" يوم كان الفصيح منتشرا وأسباب البيان متوفرة ومجالس العلم آهلة وحلقات الدروس حافلة، وهكذا يعيد التاريخ نفسه بما تقضي به سنة الله، وإلى الله ترجع الأمور.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)