المنشورات
الرواية بعد الإسلام:
فلما جاء الإسلام وكان مرجع الأحكام فيه إلى الكتاب والسنة، كان الصحابة يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذًا علميا؛ ليتفقهوا في الدين وليكونوا في جهة القصد من أمرهم، اختيارًا للصواب، وصدا عن الخطأ؛ فكانت مجالسه عليه الصلاة والسلام هي الحلقات العلمية الأولى التي عرفت في سلسلة التاريخ العربي كله، كما كان هو صلى الله عليه وسلم أول من علم، وأول من صدرت عنه الرسائل التي تشبه لمؤلفات العلمية: كرسالة الزكاة التي أملاها وكانت عند أبي بكر رضي الله عنه.
فلما قبض صلى الله عليه وسلم، بدأ من بعده علم الرواية؛ إذ لم يعد من سبيل إلى الاستدلال والفضل إلا بها، حتى يكون الرأي عن بينة، وحتى تكون المعرفة بالحق عيانًا؛ فوضع أبو بكر رضي الله عنه أول شروط هذا العلم، وهو شرط الإسناد الصحيح؛ إذ احتاط في قبول الأخبار؛ فكان لا يقبل من أحد إلا بشهادة على سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم1، والعهد يومئذ قريب، والصحابة متوافرون، والمادة لم تنقض بعد؛ لذلك كانت الشهادة على السماع في وزن العدالة والضبط, وكل ما تقوم به صحة الإسناد.
ثم كان عمر رضي الله عنه أول من سن للمحدثين التثبت في النقل؛ إذ كانت طائفة من الناس قد مردت على النفاق، وكان الحاجة قد اشتدت إلى الرواية واعتبرها الناس بمنزلة علمية، لانفساح المدة وانتباه النفوس إلى تقادم العهد بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآثار ستكون علم من يتخلفون عن مراتب أهل السابقة من التابعين فمن بعدهم؛ فكان عمر وعثمان وعائشة وجلة من الصحابة رضي الله عنهم يتصفحون الأحاديث ويكذبون بعض الروايات التي تأتي ويردونها على أصحابها، ثم خشي عمر أن يتسع الناس في الرواية وقد شعروا بالحاجة إليها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، فكان يأمرهم أن يقلوا الرواية، وكان شديدًا على من أكثر منها أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه؛ لأن المكثر وإن جاء بالصحيح فقد لا يسلم من التحريف، أو الزيادة أو النقصان في الرواية، وقد سمعوه عليه الصلاة والسلام يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار".! وعلى هذه الجهة من التوقي والإمساك في الرواية كان كثير من جلة الصحبة وأهل الخاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام: كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا، كسعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
وكان أكثر الصحابة رواية أبو هريرة، وقد صحب ثلاث سنين وعمر بعده صلى الله عليه وسلم نحوًا من خمسين سنة -توفي سنة 59هـ- ولهذا كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه، وهو أول راوية اتهم في الإسلام، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه، لتطاول الأيام بها وبه، إذ توفيت قبله بسنة، غير أنه كان رجلًا فقيرًا معدمًا، فكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشِبَع ِبطنه، لا يشغله عن الصفق بالأسواق "البيع والشراء"، والتصرف في التجارات، ولا لزوم الضياع والعمل في الأموال كغيره من الصحابة، فلهذا حفظ ما لم يحفظوا، وأتى عنه من الرواية ما لم يأت عن غيره منهم.
ثم كانت الفتنة أيام عثمان رضي الله عنه، واضطراب من بعدها حبل الكلام من الخلافة، وخاض الناس في ضروب من الشك والحيرة والقلق، فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت، وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة فاطمة، أو دلالة قائمة، على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والأغفال، مما هو غلط لا شوب فيه من تعمد الكذب.
وقد قال عمران بن حصين, وهو من الصحابة، توفي سنة 52هـ: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالًا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون1.
غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة؛ فكان الخطب لم يستفحل؛ حتى إذا خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقًا وجعلوا أهلها شيعًا بدءوا يتخذون من الحديث صناعة، فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب؛ ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة مما يشبه أحاديث خرافة؛ فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل هذه الوجوه في عصور مختلفة.
أما القصاص فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب من الأحاديث؛ ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فطر العقول، أو كان رقيقًا يحزن القلوب ويستغزر العيون؛ وللقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة.
وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المستشنعة، والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان والرومان وأساطير الهنود والفرس، ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح في العقول ولا يستقيم على النظر.
وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير وما إليه. وأمثلة ذلك كله فاشية في كتب موضوعات الحديث، ولا محل لها في هذا الفصل؛ فإنما نريد به متابعة تأريخ النشأة الأولى لعلم الرواية، وهي إنما كانت في الحديث كما علمت.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)