المنشورات
فائدة الإسناد إلى الرواة:
مما تقدم تعلم أنه لولا الحديث لما خلصت اللغة، ولجاءت مشوبة بالكذب والتدليس، ولفسد هذا العلم وما بني عليه، وذلك قليل من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونضرته، غير أنا رأينا قومًا ممن يردون على الرواية ويتحكمون على السماع بالغرض مجردًا من النصفة، وبالرأي مستهترين به دون أن يجعلوا له نصيبًا من التثبت والتوقي, يجحدون فائدة الإسناد ولا يرون له خطرًا كبيرًا، ثم لا يجدون في سلسلة تلك الأسماء التي توصل بها الأخبار إلا لغوًا تاريخيا, ومنهم من يرى أن ذلك إنما جاء من أثرة الرواة ومحبتهم أن تبقى أسماؤهم مذكورة متدارسة، فكأنهم دسوا تراجمهم في العلوم لتبقى ببقائها، وأن ذلك من حبائل ثقفهم وفطنتهم..... إلى آخر ما يعقدون فيه أعناقهم من مثل هذه الآراء التي يموهون بها على قصار النظر، وذوي العقول المدخولة؛ وهؤلاء وأشباههم كمن ينظرون إلى الدوحة الباسقة من أعلاها فيحسبونها قد نبتت من السماء؛ لأنهم لم يستقروا تاريخ الإسناد، ويظنون أن هذه العلوم المسندة قد دفعت للناس على الكفاية, ووقعت إليهم على قريب من التمام، فهي هي في الكتب وفي الصدور، لم يعترضها عارض ولا دخل عليها وهن ولا فساد.
وفريق آخر رأيناهم ينكرون كل ما جاءت به الروايات ويتهمون الكتب ويطعنون على الإسناد، ومن غريب التناقض في أمر هؤلاء أن في نفس اعتراضهم الجواب عليه، فهم يقولون إن الخبر من الأخبار لا يثبت إلا عن رؤية حتى تكون حكايته على يقين، فإذا عارضتهم بخبر وناظرتهم فيه قالوا لك: هل رأيت؟ هل شهدت؟ هل لقيت صاحب الخبر، وليت شعري، هل غاية الإسناد إلا أن تكون كأنك رأيت وشهدت ولقيت صاحب الخبر الذي تسنده؟ وهل هو -الإسناد- إلا تحقيق المعاصرة التي هي الشرط في ثبوت الرواية حتى كأنك أشهدت الزمان على صحة ما ترويه؛ لأن كل رجل في سلسلة الإسناد إنما هو قطعة من الزمن تتصل بقطعة إلى قطعة حتى يتهيأ من ذلك مسلك التاريخ ويتضح نهجه كأنك تبصره على رأي العين ويقين الخبرة.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)