المنشورات

حفظ الأسانيد في الحديث:

وقد عني المحدثون بعلم الرجال أتم عناية وأكملها، بحيث لا يتعلق بغبارهم في ذلك الشأو مؤرخو الأمم جمعاء، حتى جعلوا الإسناد عاليه ونازله كأنه علم الأخلاق التاريخي، قد رتبوا فيه الرجال على طبقاتهم، وأنزلوهم على المراتب المتفاوتة من العدالة والضبط، ووزنوهم في كفتي التجريح والتعديل1، وحاسبوهم على كل دقيق وجليل، وبحثوا فيما كان من أمرهم على العزيمة وما كان على الرخصة، وحفظوا أسماءهم وتبينوا صفاتهم، وتصفحوا على أخلاقهم، كما يعرف الرجل الحكيم مثل ذلك من بنيه وأقرب الناس إليه.
وهذا شأن لا تصوره الكلمات، ولا يصفه إلا النظر في كتبه المدونة، كالكتب الموضوعة للطبقات والموضوعات وشورح الأمهات من كتب الحديث، كصحيح البخاري ونحوه.
وقد قال دغفل بن حنظلة: "إن العلم أربعًا: آفة، ونكدًا، وإضاعة، واستجاعة؛ فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لم تشبع منه". قال الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرواة؛ ولأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبر ما قد دونوه، كان ذلك الازدياد داعيًا إلى النقصان، وذلك الربح سببًا إلى الخسران.... ا. هـ. والازدياد الذي وصفه كان شأن طائفة من العلماء انصرفوا إلى حفظ الأسانيد وطلبوا الحديث الواحد من طرق كثيرة، رغبة في تنوع أسانيدها، لا لفائدة إلا التميز بهذا النوع من الحفظ، فإنه بعد أن اتسعت فنون الرواية أخذ أهلها في مذاهب التخصيص، فبعضهم كان أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ لمتون الألفاظ؛ وكل طائفة إنما تشارك غيرها فيما تعلمه وتنفرد دونها بما عرفت به، ليكون إليها المرجع فيه. ولكن أغرب ما وقفنا عليه مما يتعلق بالاتساع في حفظ الأسانيد، ما ذكروه من أن ابن الأنباري المتوفى سنة 327هـ كان يحفظ 120 تفسيرًا للقرآن بأسانيدها1، وهو الذي قيل فيه أن من جملة تصانيفه كتابًا عن غريب الحديث يقع في خمسة وأربعين ألف ورقة، وله أخبار أخرى من نوادر الحفظ نذكر بعضها في محله. وهذا الرجل لو سمع أو قرأ مائتي تفسير بأسانيدها لحفظها؛ فإنه كان آية من آيات الله في الوعي وقوة الحافظة.
وبعد أن ضعف علم الرواية واقتصروا في الحديث على ما لا بد منه، كان لا ينبغ من حفاظ الأسانيد المتسعين فيها إلا الأفذاذ الذين تعقم بهم الأزمنة المتطاولة؛ ومن أشهرهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية الأندلسي المتوفى سنة 633هـ، وقد انفرد هذا الرجل بحفظ حواشي اللغة، حتى صار عنده مستعملًا، وامتاز بذلك في المتأخرين، كما انفرد بحفظ الأسانيد، حتى إنه لما حضر إلى مصر في دولة بني أيوب -أيام الملك الكامل- جمعوا له علماء الحديث فذكروا له أحاديث بأسانيد حولوا متونها ليعرفوا مبلغ حفظه فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية وردها إلى أسانيدها الصحيحة.
وكان مثل هذا يعد غريبًا في القرن الثالث، والحفاظ متوافرون، والأسانيد قريبة الأطراف، فإن علماء مصر الذين امتحنوا أبا الخطاب إنما حذوا في ذلك حذو علماء بغداد في امتحان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح المتوفى سنة 256هـ رحمه الله؛ فقد نقل كثير أنه لما قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا من هذا الإسناد آخر، وإسناد هذا لمتن آخر، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس؛ امتحانًا لحفظه، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من العشرة التي حفظها؛ فئقال: لا أعرفه! واستمروا يسألونه وهو يقول: لا أعرف! حتى أتوا على المائة! فلما علم أنهم فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت فيه كذا صوابه كذا؛ واستمر حتى أتى على تمام العشرة، ثم فعل بالآخرين مثل ذلك ما يخطئ ترتيب حديث علي غير ما ألقي عليه، ولا في نسبة حديث إلى غير صاحبه الذي ألقاه، وهو كل ذلك يرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، فأقر الناس له بالحفظ. وقيل إنه كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطته، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن؛ فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة، لا في الإسناد ولا في المتن؛ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . 













مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید