المنشورات

إسناد الكتب:

ومن يومئذ صار أمر الإسناد مقصورًا على تلقي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها؛ لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل وكان أمرهم قد اختل، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئا، وذلك ما سميناه آنفًا بالأسانيد العلمية. وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفًا من أول عهد التأليف، ولكنه لم يكن مما يتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفى سنة 335هـ يتباهى عظيمًا بكتبه وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع! وقد هجي بذلك؛ لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد1. 

ومن ثم صاروا يطلقون لفظ "الصُّحُفي" على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي "في أواخر القرن الخامس" وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحُفيا.
وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة 858هـ آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حِسّه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال له: أنت صحفي! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من إربل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج وكثيرًا من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام1.
ومن كان ثقة مسندًا للكتب وفاته إسناد كتاب مما يعده الناس من الأمهات والأصول، عدوه متساهلًا في الرواية، وقد نقل ياقوت أن علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي "من صقلية" إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة 515هـ؛ لما قدم إلى مصر سأله نقاد المصريين عن كتاب الصحاح، فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب لهم إسنادًا وأخذه الناس عنه مقلدين له2. ولهذا قلما كان يظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد؛ وقد ذكروا أن بعضهم كان يقرأ المقامات على الحريري "توفي سنة 516هـ" فوصل إلى قوله:
يا أهل ذا المغني وقيتم شرا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد رفع الليل الذي اكفهرا ... إلى ذراكم شعثًا مغبرا
فقرأها "سغبًا معترا" ففكر الحريري ساعة ثم قال: "والله لقد أجدت التصحيف، فرب شعث مغبر غير سغب، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرته كذلك! ".
ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب العربية معروفًا عند كبار العلماء إلى اليوم. 











مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید