المنشورات
الحفظ في الإسلام:
بسطنا في أول الكلام ما حَضَرنا من أسباب حفظ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ونريد هنا أن نذكر تأريخ الحفظ بعد ذلك؛ فإنه كان مادة الرواية ومدارها. ولقد رأينا كثيرًا من أهل عصرنا يمضغون علماء العرب مضغًا، ويلوون ألسنتهم بعبارات من الإزراء على ما وردت به الرواية من أنباء حفظهم، لا يعجبون في أنفسهم من أن يكون ذلك صدقًا فحسب، ولكنهم يعجبونك من كذبه، وينبهونك على سخافة المغالاة فيه بزعمهم؛ لما يشق عليهم من النزوع إلى مثله والأخذ في ناحيته، ولقصر نظرهم عن الطموح إلى بعض مراتبه! فيأتونك بالكلام اعتسافًا، ويتخرصون بالأحكام جزافًا، ويزعمون أن أكثر ما روي عن علمائنا من الحفظ فهو إما تنفيق لهم في سوق التاريخ, أو تلفيق عليهم في مساقه؛ ولو أنك اعترضت الحجة في مدارج أنفاسهم لرأيتها هواء، أو كلامًا هراء: فهم يقيسون على ما في طباعهم من الكلال، وما في أنفسهم من الهَوْينا والوكال؛ ثم هم قوم لا يكشفون عن أسباب الحوادث العربية، ولا ينفذون بين معاقد تلك الأمور ومصادرها؛ وقد جهلوا تاريخ الرواية، وجهلوا معه الأسباب التي بعثت من تلك الهمم سوابق غاياتها، وأظهرت لها معجزات الحفظ خوارق آياتها، ورفعت للأجيار على قمة التاريخ العقلي خوافق راياتها؛ فهؤلاء لا نزيد على أن نقول فيهم: هؤلاء.
وليس تاريخ العرب وحدهم هو الذي امتاز بنوابغ الحفاظ، بل الحفظ موجود من أقدم أزمنة التاريخ؛ لأن الحافظة كانت وحدها عند القدماء كتاب التاريخ والتقاليد والشرائع والآداب وما إليها؛ فكانت هي صورة الفكر الإنساني على الحقيقة؛ وقد ذكروا من قدماء الحفاظ "متيريداتس" الكبير الذي كان مالكًا على الشمال من غربي آسيا الصغرى في القرن الأول قبل الميلاد، فقالوا إن هذا الملك كان يحكم على اثنتين وعشرين أمة مختلفة، وزعموا أنه كان يخطب على كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، وذكروا مثل ذلك عن "قورش" ملك الفرس و"سيبيون" الآسيوي، والإمبراطور أدريان وغيرهم؛ وهذا أمر لا ينقطع في عصر من العصور، فإن من الناس من تكون أذناه وعيناه أبوابًا للتاريخ، فلا يسمع أو يقرأ شيئًا إلا حفظه ثم لا ينساه؛ وفي أوروبا وأمريكا لعهدنا شواهد كثيرة لا نطيل باستقصائها فإن أحدًا لا ينكرها.
بيد أن تاريخ العرب إنما امتاز بسعة مادة المحفوظ وتنوعها، وبالأسباب الدينية التي بعثتهم على الحفظ، مما أومأنا إليه في محله؛ ومن القواعد المطردة التي تبنيناها من البحث في التاريخ العربي، أن كل شيء للعرب إذا تعلق به سبب من الدين جاءوا فيه بالمعجزات التي يبزون فيها الأمم كافة ويجعلونها من أنفسهم طبقة التاريخ وحدها، ولم نر هذه القاعدة تخلفت في أمر من أمورهم؛ وهي بعض ما خص به هذا الدين الحنيف الذي وجد العالم في كتابه الكريم معجزته الخالدة.
وبعد: فإن الحافظة نفسها تتفاوت درجاتها في الناس؛ وتتفاوت في أدوار الحياة للشخص الواحد باعتبار الأسباب الوراثية والآفات والعلل وما يكون من الإهمال والاستعمال، كما تختلف قوة وضعفًا في بعض أنواع المحفوظات دون بعضها، على حسب ما ركب في الفطرة وما تمس إليه الحاجة؛ فليس ما يحفظه الرياضي، بالذي يستطيعه المحدث أو اللغوي، ولا حفظ هذين كحفظ غيرهم من أهل الطبقات الأخرى، وهلم جرا. وإن نوادر الحفظ التي تُروى عن العرب إنما جاءت عن أفراد رزقوا سمو هذه القوة الطبيعية، وتفرغوا لها برهة العمر مما يشغل الذرع، ويملك الطاقة، ويقسم القلب، ويشعث الفكر؛ فلم يكن من العجيب أن يحفظوا ما حفظوه، ولكن العجيب أن لا يكونوا قد حفظوا أكثر من ذلك؛ فأولئك قوم هيأهم الله لما برعوا فيه بالأسباب الآخذة إليه، والعلل المقصورة عليه؛ فاجتمعت له أنفسهم، وتوفرت قواهم، وفرغت أذهانهم؛ حتى لم يكن من هم أحدهم إلا أن يرى نفسه شخصًا للعلم الذي هو بسبيله، فيقال فلان صاحب الفن والفن هو فلان.
دع عنك ما كان على الناس من مؤنة الكتابة في القرن الأول وبعض الثاني إذا ابتغوا أن يتكلوا على الخطوط ويدونوا ما يقع إليهم من فنون العلم تدوينًا يغنيهم عن الحفظ ويجزئ ما تجزئه المؤلفات المعدة للمراجعة والتصفح؛ إذ كانوا إنما يكتبون على الرقاع واللخاف "حجارة بيض رقاق عراض" وعسب النخل والجلود والعظام ونحوها، مما يأتي على ما فيه أيسر أسباب التلف أيها كان؛ واستمروا يكتبون بعد الإسلام على الجلود، والرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، وعلى الورق الصيني وغيره نادرًا، إلى آخر عهد الأمويين؛ فلما كان زمان "السفاح" أول الخلفاء العباسيين "توفي سنة 136هـ" غير وزيره خالد بن برمك "توفي سنة 163هـ" الدفاتر من الأدراج "لفائف الجلد" إلى الكتب؛ ولكنها كانت كتبًا من الجلد، وبقيت كذلك حتى اتخذ الفضل بن يحيى البرمكي هذا الكاغد "الورق" وأشار بصناعته؛ فشاعت الكتابة فيه مع الجلود والقراطيس وأصناف أخرى من الورق الصيني والتهامي والخراساني؛ واتخذ الناس من ذلك الصحف والدفاتر، ومن ثم تمت لهم أدوات التأليف، ولكن بعد أن استبحرت فنون الرواية ودرج أهلها على الحفظ ورأوا فيه صلاح الأمر وسداد الرأي وبلغوا منه كل مبلغ؛ وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك في الرق لكثرة الحفظ وقلة الرسائل السلطانية والصكوك، فلما طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه ضاق الرق عن ذلك فلم يكن لهم بد من تلك الصناعة.
ويبتدئ تاريخ الحفاظ المعدوديين في الإسلام بعبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ فقد كان لا يدور في مسمعيه شيء إلا وعاه وأثبته، وقد مر بك الخبر الذي رد فيه قصيدة ابن أبي ربيعة ولم يكن سمعها إلا تلك المرة صفحًا؛ فلا جرم أن كان صدره رضي الله عنه خزانة العرب، إليه مرجعهم في التفسير والحديث والحلال والحرام والعربية والشعر؛ لو صحت نسبة ما رواه بعض الرواة عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس من أنه قال: إنه يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء1، لكان ابن عباس نفسه صاحب السبعين الأولى في الإسلام؛ أما إن كان الخبر من أكاذيب عكرمة، فيكون قد وصف به أستاذه ابن عباس أصدق الوصف.
ثم كان بعد ابن عباس الشعبي من التابعين، وكان يقول: ما كتبت سوادًا في بياض إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد بحديث قط إلا حفظته! وفساد الحفظ في كثير من طبقة التابعين، وإنما نوهنا بالشعبي لأنه أوحدهم في حفظ الأدب، كما أنه أوحدهم في حفظ الحديث؛ وقد صار في التفنن مثلًا دائرًا على الألسنة، وكان يقول: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرًا ثم لا أعيد بيتًا واحدا.
وما أظلهم القرن الثاني حتى كثر الحفاظ واتسعوا في فنون المحفوظ، وخاصة بعد أن نشأ الإسناد واشتغلوا بطرقه؛ والإسناد إنما يعتبر به اتصال السماع، فهو راجع إلى التلقي والتلقين، ونحن نرى أن لولا حفظ الحديث ما اشتغلوا بالإسناد، ولولا الإسناد ما ثبتوا على الحفظ، وقد وجدا في الرواية جميعًا وذهبا جميعًا.
وبعد، فقد كان التدبير عندما أجمعنا النية على كتابة هذا الفصل؛ أن نفيض في ذكر الحفاظ جيلًا بعد جيل إلى سقوط الرواية، ثم نستقصي أسماء من اشتهروا منهم بعد ذلك إلى هذه الغاية ممن وقفنا على أخبارهم في بطون الكتب، ولكنا رأينا الشوط بطينًا والمادة حافلة وفي دون ذلك بلاغ، فاجتزأنا بالنتف والنوادر مما يتعلق بالأدب دون الحديث1؛ تفاديًا من أن يعد ذلك منا في الحشد والاجتلاب، وتوسعًا من الضيق في هذا الباب.
ذكروا عن حماد الراوية المتوفى سنة 155هـ "وهو أول من خصص بلقب الراوية من الأدباء" وكانت ملوك بني مروان تقدمه وتؤثره وتسني بره, أن الوليد بن يزيد قال له يومًا: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الرواية؟
قال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم مم تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا ينشدني أحد شعرًا لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث.
قال: إن هذا العلم وأبيك كثير؛ فكم مقدار ما تحفظه من الشعر؟
قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة سوى المقطعات من شعر الجاهلية.
قال: سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهلين!
وروي عن الطرماح الشاعر أنه قال: أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:
بان الخليط بسحرة فتبددوا
وهي ستون بيتًا، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد؛ ثم أقبل علي فقال: هذه لك؟ قلت: نعم! قال: ليس الأمر كذلك! ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها في وقته، فقلت: له: ويحك! إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد! فقال: قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي....! فقلت: لله علي حجة أحجها حافيًا راجلًا إن جالستك بعدها أبدًا!
وكان الأصمعي "المتوفى سنة 215هـ" آية في سرعة الحفظ والتعلق: كان يحفظ ست عشر ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وذكروا أنه لما قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قومًا من أهل الأدب؛ فأحضر أبا عبيدة، والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي، وأبا بكر النحوي؛ فابتدأ الحسن فنظر في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة، ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل عليهم فقال: قد فعلنا خيرًا ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية فنأخذ الان فيما نحتاج إليه؛ فأفاضوا في ذكر الحفاظ، فذكروا الزهري، وقتادة، ومروا؛ 0فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول إنه ما قرأ كتابًا قط فاحتاج أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه؟ فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك ما حكى، وأنا أقرب إليك1: قد نظر الأمير فيما نظر من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة!
قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا، والرقعة الثانية، والثالثة، حتى مر في نيف وأربعين رقعة؛ فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين! فكف الأصمعي.
وكان أبو محلم الشيباني المتوفى سنة 248هـ لا ينسى شيئًا، حتى قيل فيه إنه صاحب السبعين لعهده؛ ولما قدم مكة لزم ابن عيينة فلم يكن يفارق مجلسه، فحدث أنه قال له يومًا: يا فتى، أراك حسن الملازمة والاستماع، ولا أراك تحظى من ذلك بشيء! "قال أبو محلم": قلت: وكيف؟ قال: لأني لا أراك تكتب شيئًا مما يمر! قلت: إني أحفظه! قال: كل ما حدثت به حفظته؟ قلت: نعم! فأخذ دفتر إنسان بين يديه وقال: أعد علي ما حدثت به اليوم. فأعدته فما خرمت حرفًا، فأخذ مجلسًا آخر من مجالسه فأمررته عليه، فأورد حديث السبعين عن ابن عباس، وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين!
وسأل الواثق يومًا أبا محلم هذا عن شاهد من الشعر فيه ذكر المَرْت "وهو الفقر الذي لا نبت فيه" فأفكر طويلًا حتى أنشد بعض الحاضرين بيتًا لبعض بني أسد، فضحك أبو محلم، ثم قال للذي أنشده: ربما بعد الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، والله لا تبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة بيت معروف لشاعر معروف في كل بيت منها ذكر المرت.
وكان بندار بن عبد الحميد "وهو معاصر لأبي محلم" لا يشذ عن حفظه من شعر الجاهلية والإسلام إلا القليل: ذكروا أنه يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة منها: بانت سعاد2.
وكان ابن دريد المتوفى سنة 321هـ أحفظ الناس وأوسعهم علمًا، تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها من حفظه، وقد تصدر في العلم ستين سنة.
وأبو بكر الأنباري المتوفى سنة 327هـ، فقد كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر شاهدًا في القرآن، وكان لا يملي إلا من حفظه، ومرض يومًا فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمرًا عظيمًا، فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتبًا1 وأعجب ما عرف من أمره أن جارية للراضي بالله سألته يومًا عن شيء في تعبير الرؤيا، فقال: أنا حاقن! ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني وجاء من الغد وقد صار معبرًا للرؤيا.
وللمتأخرين من بعد القرن الخامس ولوع بحفظ الكتب؛ لأن الحفظ خلف الرواية من ذلك العهد، فقامت الكتب مقام الرواة أنفسهم، ومن أعجب ما يُروى من ذلك أن الملك عيسى ابن الملك العادل الأيوبي سلطان الشام المتوفى سنة 604هـ أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه "محمد وأبي يوسف"2 فجردوه في عشرة مجلدات وسموه، "التذكرة" فكان يديم قراءته ولا يفارقه حتى حفظه، وذكروا أنه كتب على جلد منه: "حفظه عيسى". وهذا الملك هو الذي شرط لكل من يحفظ "المفصل" للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة.
وكان علماء الأندلس يتهافتون على حفظ الكتب، وخاصة كتاب سيبويه في النحو، وأخبارهم في ذلك مستفيضة.
بيد أن من أعجب ما وقفنا عليه من تاريخ الحفظ في المتأخرين وفي البلاد التي يكون أهلها بالفطرة أبعد عن العربية وآدابها، ما ذكره صاحب "الشقائق النعمانية" من أنه كانت في بلاد قرامان -لعلها القريم- مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة، شرط بانيها أن لا يدرس فيها إلا من حفظ كتاب "الصحاح" للجوهري، وذلك في أواخر القرن الثامن، وهي مدرسة نشأ منها علماء على مذهب من التحقيق، يظهر أنه كان لعلماء الروم عناية بالصحاح؛ فقد أورد صاحب "الشقائق" في موضع آخر في ترجمة المولى المشهور بالمليجي "في النصف الأخير من القرن التاسع" أنه كان يحفظ "الصحاح"، وكان يرجع إليه إذا شكلت كلمة منه فيقرأ ما يتعلق بتلك الكلمة من حفظه.
على أن خاتمة حفاظ اللغة في المتأخرين بلا نزاع، إنما هو الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب "القاموس" المتوفى سنة 817هـ، فقد كان سريع الحفظ آية في الذكاء، كان يقول: لا أنام إلا بعد أن أحفظ مائتي سطر؛ وكانت ولادته سنة 729هـ فلو قضى قريبًا من نصف هذا العمر لا يحفظ كل يوم إلا ما شرط على نفسه على أن يهمل أيامًا كثيرة، لكان مبلغ حفظه مائة ألف ورقة أقل ذلك1؛ وعلى أن هذا المحفوظ ما يختاره من عيون اللغات والآداب والفنون دون المألوف من ذلك كله؛ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [غافر: 2] .
ونقف عند هذا الحد مكتفين بما تقدم وإن كان غيضًا من فيض؛ فإن الاستقصاء يمد في كل صفحة من هذا الفصل بابًا، ويجعل من الفصل كله كتابًا؛ بيد أنه لا يفوتنا أن ننبه في هذا الموضع على أصل من أصول التاريخ العلمي في الإسلام؛ وذلك أن كثرة المؤلفات العربية على امتداد النفس في أكثرها وتوفير أوراقها وتعدد أجزائها وامتلاء مادتها واستغراق أبوابها، وعلى ما فيها من سمو العبارة ومتانة التركيب وبلاغة الأداء وحلاوة الكفاية واتساق القول واطراد ينبوعه, كل ذلك إنما جاءهم من الحفظ، وهو نتيجة الرواية؛ فترى الواحد منهم يملي المجالس الحفيلة بأنواع الآداب من حفظه ثم يكتبه السامعون، فتخرج منه الأجزاء الكثيرة الممتعة؛ وإذا ألف استملى من حافظته فأمدته وسالت على قدمه، فهو يجمع ويرتب ويستخرج من فكره، وليس أسرع من حركة الفكر؛ وهذه السرعة هي التي تخرج لهم ما تخرجه من آثار الصناعة المتقنة على ما فيها من الجمال والكمال؛ فهم يستعينون في أعمالهم بالأدوات العقلية الحية التي تشبه الآلات الكهربائية في معجزات الصناعة الحديثة. ولا سواء من يكون كذلك ومن لزمه من أيسر مؤنة العمل كد الفكر واستحثاث الخاطر وكثرة الإطراق وتقطيع الوقت في البحث والتفتيش، ثم يخرج من ذلك على حسرات يرسلها وراء ما ند عنه مما لا تصل يده إليه في الأصول والأمهات من كتب القوم؛ وبعد هذا كله لا يكاد يجد في مدته ما ينفقه على وجوه الإتقان الصناعي في عمله إن خرج قصدًا أو مقاربًا.
فلا سبيل إلى إحياء العربية وآدابها إلا بإحياء سنة الحفظ والرجوع إلى طريقة الرواة في التعليم، وهي هي الطريقة الجامعة "الإنسكلوبيديا" التي بها العلم في أوروبا وأمريكا، وكل سبب يغني شأنه إن أريد به الغناء، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] .
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)