المنشورات
تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي
وقد تتبعنا الأطوار التي تعاقبت على هذا اللسان حتى أطلق عليه المعنى العلمي الذي يفهمه المتأخرون عند إطلاق لفظة "اللغة"، وصار يقال فيه وفي العالم به: اللغة واللغوي، ولنستخرج تأريخ هذه الكلمة "اللغة" في دلالتها الاصطلاحية، فرأينا أن بداءة هذا التاريخ كانت لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه إليهم الخطاب, كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة؛ حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بنى نهد: "يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريا في العرب فلم يلتفتوا إليه.
فلما تكلموا في تفسير القرآن وغريب الحديث، وكانوا يلتمسون لذلك مصادقه من أشعار العرب، وضح هذا المعنى اللغوي، وأكثر ما كان هذا المعنى وضوحًا في زمن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فهو الذي سن ذلك للمفسرين، وقال إن الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله "بلغة العرب" رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. وقد سأله نافع بن الأزرق وصاحبه نجدة بن عويمر مسائل كثيرة في التفسير، وجعلا الشرط عليه أن يأتي لكل كلمة بمصداقها من كلام العرب -وهي أسئلة مشهورة أخرج الأئمة أفرادًا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس، وساق السيوطي جميعها في "الإتقان" إلا بضعة عشر سؤالًا- فكان هذا الصنيع من ابن عباس داعيا إلى اعتبار اللغة اعتبارا علميا؛ إذ نظر إلى لغات العرب من وجه واحد واعتبرها مادة واحدة في الاستشهاد، وسمى هذه المادة "لغة العرب".
ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ "العربية"1 -وكان الناس يختلفون إليه يتعملونه منه وهو يفرع لهم ما كان أصّله، وشاع ذلك. وكان الغرض منه صيانة اللسان من الخطأ، وتقويمه من الزيغ، ورد السليقة إلى حدود الفطرة التي خرجت عنها- ظهر ذلك المعنى اللغوي في الشكل اصطلاحي، ولكن لم يتميز من اللغة بالتعريف إلا العويص النافر منها الذي يعلو عن طبقة الحضريين ومن ضعفت ملكاتهم، فكان هذا وأشباهه كأنه غريب عليهم خارج عما ألفه سوادهم من تصاريف القول، بعد أن أطبق الناس على اللغة القرشية الفصحى، ولذلك اصطلح أهل العربية يومئذ على تسميته "بالغريب" وهو أول معاني الدلالة اللغوية.
وكان أبو الأسود قد روى الشعر وتتبع كلام العرب واستقصى في ذلك وبالغ2 ومع ذلك فلم يسم علم هذا الكلام "باللغة"، ولم يعرف في زمنه إلا "العربية" للنحو وإلا "الغريب" لمثل ما يسميه المتأخرون بالكلام اللغوي ...
نقل الجاحظ في "البيان" أن غلامًا كان يقعر في كلامه، فأتى أبا الأسود يلتمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟
قال: أخذته الحمى، فطبخته طبخًا، وفنخته فنخًا، وفضخته فضخًا، فتركتعه فرخًا!
قال: فما فعلت امرأته التي كانت تشاره وتماره وتهاره وتضاره؟
قال: طلقها وتزوجت غيره فرضيت وحظيت وبظيت1؟
فقال أبو الأسود: قد علمنا رضيت وحظيت وبظيت!
قال: بظيت حرف من "الغريب" لم يبلغك!
فقال أبو الأسود: يا بني، كل كلمة لا يعرفها عمك فاسترها كما تستر السنور خزءها!
وأشهر من عرف بالغريب يومئذ، يحيى بن يعمر العدواني، وهو آخر أصحاب أبي الأسود كما سنبينه.
ثم لما اتسعت العربية وفشا اللحن وفسد الكلام وجعل الناس يبغونها عوجًا، وذلك في أواخر القرن الثاني، وخرج الرواة إلى البادية ينقلون عن العرب ويتحققون معاني العربية وأبوابها؛ تهيأت أسباب المعنى اللغوي وصارت اللغة لغتين: العربية، والمولدة. بل صارت العربية نفسها كأنها في الاعتبار العلمي لغتان، بما قام بين البصريين والكوفيين، وتحقق كلتا الطائفتين بمذاهب متميزة، فمن ثم وجد الناس السبيل إلى تسمية ما يؤخذ عن العرب "باللغة"؛ لأنها صارت من "العهد الذهني" بعد اشتغال العلماء بها وبعد تميزها عما انتهت إليه لغتهم المولدة.
فلما وضع الخليل بن أحمد كتاب "العين" الذي رتب فيه كلام العرب وضع به علم اللغة، وتمت هذه الكلمة على الناس بما صنع.
بيد أن الرواة، وهم القائمون بفنون اللغة، لم يكن يطلق على أحد منهم لفظ "اللغوي" إلا بعد أن ضعفت الرواية في أواخر القرن الثالث، وذلك لأن أحدًا منهم لم يتخصص من الرواية بعلم الألفاظ دون سائر فنونها من الخبر والشعر والعربية ونحوها، ولم نقف على هذا اللقب "اللغوي" في كلام أحد من علماء القرون الثلاثة الأولى، وقد كان يوجد في الرواة من تغلب عليه النوادر، وهي أساس علم اللغة: كأبي زيد الأنصار المتوفى سنة 216هـ، وكان أحفظ الناس للغة وأوسعهم فيها رواية وأكثرهم أخذًا عن البادية، ومع ذا فلم يلقبوه باللغوي، ووجد فيهم كذلك من انفرد بأولية التصنيف في بعض الأنواع اللغوية المحضة: كقطرب المتوفى سنة 206هـ وهو أول من ألف المثلث من الكلام، وكان يرمي بافتعال اللغة أيضًا -كما سيجيء- ولكن لم يلقبه أحد "باللغوي"؛ وعندنا أن هذا اللقب إنما ظهر في القرن الرابع بعد أن استفاض التصنيف في اللغة وتميزت العلوم العربية واستعجمت الدولة فصار صاحب اللغة يعرف بها كما ينسب كل ذي علم إلى عمله الغالب عليه، وخلف ذلك اللقب لقب الرواية؛ وممن عرفوا به في القرن الرابع: أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب "مراتب النحويين"، وابن
دريد صاحب "الجمهرة"، والأزهري صاحب "التهذيب"، والجوهري صاحب "الصحاح"، وغيرهم. ثم فشا بعد ذلك وأكثر أصحاب الطبقات من استعماله خطأ، حتى وصفوا به صدور الرواة؛ لأنهم لا يرون فيه أكثر من المعنى العلمي، أما الألفاظ بفروقها فهي ألفاظ الناس جميعًا، فلا تاريخ لها إلا التاريخ كله، والله أعلم.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)