المنشورات
افتعال اللغة:
قال الخليل بن أحمد: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت.
وليس يخفى أنه لا سبيل إلى الوضع فيما يرجع من اللغة إلى الأقيسة المطردة، وإن وضع من ذلك شيء لم يجز على العلماء، وإنما الشأن في الغريب وما ينفرد به الرواية مما لا دليل على مثله إلا دعوى حامله، فإن قومًا يفتعلون من ذلك أشياء: كعَيْدَشون اسم دويبة، وصيدخون للصلابة والبد للصنم الذي لا يعبد، والبتش، وضهيد، وغنشج، وأمثالها1 يضعونها رغبة في الذكر بها، وأن يكون عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم، والانفراد في اصطلاح الناس مَنْبَهة.
ومن هذه الأشياء ما يقره الرواة إذا لم يجدوه مخالفًا لأبنية العرب ولم يعلموا على حامله سوءًا ولا كان ممن يتدينون بالكذب، كبعض فرق الروافض فإنه منهم من يضع الشعر ويضمنه شيئا من الغريب، ليقيم به حجة واهية، أو رأيًا متداعيًا، كما ستعرفه.
وقد أفرد ابن جني بابًا في "الخصائص" لكلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي، وثقاة الرواة كانوا يتثبتون في مثل هذا فينفرد الواحد بالكلمات القليلة ولكن مع شواهدها من كلام العرب، وهم لا يروونه مع ذلك على أنه من قول العرب الذي اجتمعت عليه، فإن هذا الضرب من الكلام المجمع عليه لا يكون إلا في المألوف، وفي الذي يسمع من الفصحاء خاصة، وعلى ذلك قول أبي زيد: "لست أقول: قالت العرب، إلا إذا سمعته من هؤلاء: بكر بن هوازن، وبني كلاب، وبني هلال، أو من عالية السافلة أو سافلة العالية2؛ وإلا لم أقل: قالت العرب"!
ولا يجيء بالغريب على أنه بسبيل من الكلام المجمع عليه إلا من أراد أن يستند بشروط الرواية فيلبس على الناس أمرهم، وهو يرمي بذلك إلى التزيد في علمه والتكثر بالباطل والتنبل عند الناس، وتراه إذا أورد الكلمة المفتعلة جعلها من سماعها وزينها بوجوه من الرواية، آمنًا أن ترد عليه أو يدعي فيها مدع؛ لأن البينة عليها منه، والحكم فيها إليه، إذ كان له سلف صدق من الرواة الذين انفردوا بالغرائب والنوادر، وقبل ذلك منهم وألحق بمادة اللغة، ولهذا وأشباهه من العلل كانوا يرجعون إلى الأعراب كما علمت.
ولم يعرف أحد من الرواة كان يضع اللغة في القرن الأول، ولا في القرن الثاني، إلا ما يكون من الكلمات التي يكذب فيها الأعراب1، أو توضع إرادة اللبس والتعنيت، وإلا ما يكون من خطأ بعضهم ومكابرته في الاحتجاج له، كما سيأتي مع نظائره في الكلام على وضع الشعر.
وأول من رمي بافتعال اللغة وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة 206هـ، وكان يرى رأي المعتزلة النظامية، فأخذ عن النظام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثقوه في الرواية؛ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قمطرًا "أي: ملء صندوق"، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئًا.
واتهموا بالصنعة وتوليد الألفاظ، ابن دريد صاحب الجمهرة المتوفى سنة 321هـ؛ لأنه كان مدمنًا للخمر لا يكاد يفتر عن ذلك. قال الأزهري اللغوي: وقد سألت عنه إبراهيم بن عرفة "يعني نفطويه" فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته2.
وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة 345هـ وكان واسع الحفظ جدا، حتى قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة وتلك لعمر الله مظنة. وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه؛ فيقولون: لو طار طائر في الجو قال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا! ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مرد التهمة إلى سعة حفظه، ثم أثبت هذا الحفظ فنفى التهمة وقال: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه وضعه فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروى أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها فإنه يجيب بشيء آخر؛ فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب؟ فذكر شيئًا قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث فوضعنا رجلًا غير ذلك فسأله فقال: ما القنطرة؟ قال: أليس قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا فقلت هي كذا؟ فما درينا من أي الأضمين نعجب من ذكائه: إن كان علمًا فهو اتساع طريف، وإن كان كذبًا في الحال فحفظه فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة فأجاب بذلك الجواب فهو أطرف.
وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلامًا تركيا مملوكًا يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا وكان يملي كتاب "الياقوتة"، فلما جازه قال: اكتبوا "ياقوتة خواجا" الخواج في أصل اللغة الجوع؛ ثم فرع على هذا بابًا وأملاه؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه. وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها؛ فإن بين العلم المستطيل والحفظ المتسع موضعًا لبسط اللسان إذا أراد قائل أن يقول.
وأشهر من عرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي الذي ورد الأندلس في حدود سنة 380هـ على المنصور بن أبي عامر؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو المومأ إليه؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه؛ ولذا نظروه في الأندلس في سرعة الجواب وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق؛ وادعى في الأندلس علم الغريب؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين.
قالوا: ودخل مرة على المنصور وفي يده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه "القلب والتزبيل" وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع؛ فقال له المنصور: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب "القوالب والزوالب" لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع؛ هكذا هكذا! فقال له: "أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا إلخ، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب ونسبته إلى عاملي لأختبرك! " فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق. وله من هذا كثير.
وقال ابن بسام: إن المنصور أراه كتاب "النوادر" لأبي علي القالي، فقال: إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابًا أرفع منه وأجل، لا أورد فيه خبرًا مما أورده أبو علي! فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة على كتابه المترجم "بالفصوص" فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم؛ وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جلدتها حتى توهم القدم، ففعل ذلك وترجم عليه: "كتاب النكت، تأليف أبي الغوث الصنعاني" فترامى عليه صاعد حين رآه وجعله يقبله وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان؛ فأخذه المنصور من يده خوفًا أن يفتحه وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلام يحتوي؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئًا؛ ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر؛ فقال المنصور: أبعد الله مثلك؛ فما رأيت أكذب منك! وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب الفصوص في النهر1.
وكان أبو صاعد هذا قوي البديهة في الشعر، يضع لسانه منه حيث يريد، وهو صاحب البيت المشهور "بيت الخنفشار" الذي جرى في المتأخرين مثلًا مضروبًا في الكذب والوضع لما لا أصل له، وذلك أن المنصور قال له يومًا: ما الخنبشار1؟ فقال: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:
لقد عقدت محبتها بقلبي ... كما عقد الحليب الخنبشار
وتوفي صاعد سنة 417هـ.
وإنما كان كل ذلك قبل أن تجمع مفردات اللغة وتؤلف الأمهات والأصول وتشيع في أيدي الناس: "كالصحاح" للجوهري، و"التهذيب" للأزهري؛ ولم يوضع قبله كتاب أكبر ولا أصح منه؛ وذلك في أواخر القرن الرابع في المشرق؛ لأن الرجوع في اللغة كان إلى الرجال، وفيهم من علمت؛ أما بعد ذلك فلم يؤثر الافتعال شيئًا في اللغة، لسقوط الرواية فيها إلا من الكتب، كما أومأنا إليه في محله؛ وبهذا بطلت الصنعة وبطل تاريخها اللغوي.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)