المنشورات
وضع الشعر:
والشعر هو عمود الرواية: عليه مدارها وبه اعتبارها؛ وقد كانت منزلته من العرب ما هي، إذ كان يتعلق بأنسابهم وأحسابهم وتاريخهم وما يجري مع ذلك، حتى كأنه الحياة المعنوية لأولئك القوم المعنويين، فلم يكن عجبًا أن يدور فيهم مع الشمس والريح، وأن تسخر له ألسنتهم فينصرفوا إلى قوله وروايته، حتى بلغ منهم مبلغه الذي نصفه لك في بابه إن شاء الله.
وقد كان عند قدماء اليونان لبعض الأسباب المعنوية التي تشابهوا فيها هم والعرب رواة يتفرغون لنقل الشعر ويقومون في الناس على إنشاده ويروون قطعًا من التواريخ، وهم يسمونهم "RHAPSODIST" ومن أشهرهم في القديم رواة الإلياذة لهوميروس؛ على أن الفرق بين العرب واليونان في ذلك كالفرق بين أمة كلها شعراء بالفطرة، وأمة تميز الفطرة منها بعض شعراء.
ولم يكن من سبب في جاهلية العرب يبعثهم على وضع الشعر ونحلته غير قائله وإرساله في الرواية على هذا الوجه؛ لأن شعراءهم متوافرون، ولأنهم لا يطلبون بالشعر إلا المحامد والمعاير، وقصارى ما يكون من ذلك أن يتزيد شاعرهم في المعنى ويكذب فيه إذا هو حاول غرضًا أو أراغ معنى مما تلك سبيله، وعلى أن ذلك لا يكون إلا في الأخبار التي تلحق بالتاريخ؛ لأن الشاعر موضع الثقة؛ وهو مصدر رواية في العرب، فإن أرسل القول أرسل معه التاريخ فيجريان معًا؛ وذلك كالذي ادعاه الأعشى في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، فإنهما تنافرا إلى هرم بن قطبة في خبر مشهور، فاحتال لهما حتى رضيا بحكمه جميعًا؛ إذ كره أن يفضل أحدهما على الآخر وهما ابنا عم فيوقع بذلك عداوة بين الحيين؛ فوصفهما بأنهما في المنزلة كركبتي البعير الأردم: تقعان إلى الأرض معًا. ولكن الأعشى ادعى أنهما حكما هرمًا، وأنه حكم لعامر على علقمة، وقال في ذلك بعض قصائده وأشاعها في العرب، فلبس على الناس؛ وإنما جاء هذا الإفك؛ لأنه كان ممن ثار مع عامر، وكان قبل ذلك حين رجع من عند قيس بن معديكرب بما أعطاه، طلب الجوار والخفرة عن علقمة فلم يكن عنده ما طلب، وأجاره وخفره عامر حتى أداه وماله إلى أهله. وهذا التزيد هو الذي يسميه الرواة أكاذيب الشعراء, أما أن يكون في عرب الجاهلية من يصنع الشعر وينحله غيره على نحو ما كان في الإسلام، فذلك ما لا نعلمه ولا نظنه كان ألبتة1.
ولما جاء الإسلام واندفع به العرب إلى الفتوح، اشتغلوا عن الشعر بالجهاد والغزو حينًا من الزمن؛ فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف والحيف وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب رواته. صنعت القبائل الأشعار ونسبتها إلى غير أهلها، تتكثر بها وتعتاض مما فقدته؛ وكان في العرب قوم آخرون قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بذوي الكثرة من ذلك، وإنما العزة للكاثر؛ فقالوا على ألسن شعرائهم ما لم يقولوه وأخذه عنهم الرواة.
وأول القبائل التي وضعت الشعر في الإسلام، قريش، وكانت أقل العرب شعرًا وشعراء -لأسباب نذكرها في الكلام على الشعر- فإنها لما تعاضهت واستبت وكذب بعضها على بعض أول العهد بالإسلام حين كان منها المسلمون ومنها القاسطون ومنها دون ذلك، وضعوا على حسان بن ثابت أشعارًا كثيرة لا تليق به ولا تجوز عليه، وما نرى العرب إلا أخذت أخذها في ذلك من بعد.
ولما كانت الرواية العلمية في القرن الثاني وشمر الرواة في طلب الشعر للشاهد والمثل، استفاض الوضع في العرب وتفرغ قوم لذلك: كمحمد بن عبد الملك الفقعسي راوية بني أسد الذي وضع للرواة أشعارًا كثيرة أدخلها في روايته عن قومه. وإن أشد ما كان يعضل بالرواة يومئذ أن يقول الرجل من ولد الشعراء في العرب عن لسان أبيه تكثيرًا لشعره، فإن هذا كان مما يشكل عليهم؛ لأنهم لا يميزون أكثر الشعراء إلا بالنسبة، وهي محمل الصدق والكذب، أما الصنعة الشعرية فقلما تختلف في أشعار العرب اختلافًا يظهر لأولئك الرواة إلا في القليل من صنعة الفحول المتقدمين. وكان القوم إذا تعلقوا برجل من ولد الشعراء وألحوا عليه في السماع، ورغبوا في شعر أبيه دونه، فكثيرًا ما يفعل بهم مثل ذلك، ومن هؤلاء داود بن متمم بن نويرة الشاعر، قال أبو عبيدة: إنه قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، قال: فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته؛ فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.
شعر الشواهد:
وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو؛ وقد اشترط ذلك علماء المصرين: "البصرة والكوفة" بعد أن قامت المناظرات بينهم في فروع النحو ومسائله، وكانوا يستشهدون على ذلك بأشعار الطبقتين من الجاهليين والمخضرمين، ثم اختلفوا في الإسلاميين كجرير والفرزدق، وأكثرهم على جواز الاستشهاد بأشعارهم. وكان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم، ويعدونهم من المولدين الذين لا يستشهد بكلامهم؛ قال الأصمعي: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. وأبو عمرو هذا كان يقول في شعر تلك الطبقة: لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته!
وللعلماء كلام كثير في الطبقات التي يجوز الاستشهاد بأشعارها من أهل الحضر، ولكن الثقات منهم مجمعون على أن ذلك لا يتجاوز نفرًا من طبقة المحدثين ممن ينتسبون في العرب، ونقل ثعلب عن الأصمعي أنه قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج, وتوفي ابن هرمة بعد الخمسين ومائة، وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية1.
أما ما يذهب إليه بعضهم من أن سيبويه احتج بشعر بشار بن برد، فالخبر في ذلك أن سيبويه عاب أحرفًا على بشار ونسبه فيها إلى الغلط: كالوجلى من الوجل وجمع نون "أي: الحوت" على نينان؛ فهجاه بشار، قال أبو حاتم: فتوفاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدًا من شعر بشار احتج به استكفافًا لشره! "وتوفي بشار سنة 168هـ وقد نيف على التسعين".
وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن، وشواهد النحو؛ أما الأولى فكثيرة، وقد تقدم ما رووه من حفظ ابن الأنباري فيها، ولا يبالي الرواة في هذه الشواهد إلا باللفظ، فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون منها الألفاظ وهي حروف طاهرة؛ وقد روى أبو حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيد معمر بن المثنى الراوية بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم، قال الجرمي: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ وإن شئت فذر!
وأما شواهد النحو فأوسع الناس حفظًا لها فيما وقفنا عليه: خلف الأحمر النحوي المتوفى سنة 207هـ، وهو مؤدب الأمين ابن الرشيد؛ قال ثعلب: إنه كان يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب؛ وأبو مسحل الأعرابي الذي أخذ عن الكسائي، قالوا إنه روى عن علي بن المبارك أربعين ألف بيت شاهد على النحو.
وقد قلت شواهد النحو واللغة بعد ذهاب الرواة وعفاء مجالسهم، حتى صارت تشبه الآثار التاريخية في الضن بها والحرص عليها وتداولها كما هي؛ لأن قيمتها في نفس الحالة التي هي عليها؛ ومنشأ ذلك من تناقل الكتب بالرواية والاقتصار على ما فيها من مبالغة في تحقيق الإسناد العلمي؛ ولم يشتهر أحد في المتأخرين بالإكثار من تلك الشواهد والاتساع في حفظها كابن مالك النحوي الشهير صاحب الألفية المتوفى سنة 672هـ، وكان قد أخذ العلم بنفسه وليس له في الانتماء ما لغيره من العلماء2؛ قال الذهبي في ترجمته: "وأما أشعار العرب التي يستشهدون بها على اللغة والنحو فكانت الأئمة الأعلام يتحيرون ويتعجبون من أين يأتي بها" وهذه العبارة وحدها كافية في الوصف التاريخي الذي نحن فيه.
والكوفيون أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها؛ لضعب مذاهبهم وتسلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولًا يقاس عليها؛ مجاراة عليها؛ مجاراة لما فيهم من الميل الطبيعي إلى الشذوذ كما سنبينه، قال الأندلسي في شرح المفصل: "والكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين" وأول من سن لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك.
ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم؛ وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله؛ بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، كالشاهد الذي يحتجون به على جواز دخول اللام في خبر لكن، وهو قول القائل المجهول:
ولكنني من حبها لعميد
واستمروا على الوضع حتى بعد أن استبحرت الرواية في أواخر القرن الثالث؛ قال المبرد المتوفى 285 وهو من البصريين: قال لي أبو عكرمة الضبي: ما يساوي نحوك عند ابن قادم شيئًا! "وابن قادم من الكوفيين" قلت: كيف؟ قال: لأن له لغة بخلاف هذه، وشواهد من الشعر عجيبة, فجعل ينشدني ويحدثني ويضحك، فكان من ذلك أن قال لي: سمعته يقول: أرز، ورنز؛ ثم أنشد:
قربا يا صاح رنزه ... واجعل الأصل إوزه
واصفف القينات حقا ... ليس في القينات عزه
فقلت له: من يقول هذا؟ قال: بعض العرب المتحضرة، فقلت: بل بعض النبط المتقذرة. ا. هـ.
ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ1. على أن البصريين وإن تثبتوا في أشعار الشواهد فقد وقع لهم أشياء من الموضوع وجازت عليهم، وهذا سيبويه الذي سمي كتابه "قرآن النحو" وقيل فيه إن شواهده أصح الشواهد؛ سأل اللاحقي: هل تحفظ للعرب شاهدًا على إعمال فُعِلٌ "الصفة"؟ قال اللاحقي: فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورًا لا تضير، وآمن ... ما ليس منجيه من الأعداء
وقال المبرد في "الكامل"2: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضورة ... والبيت الأول:
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا يومًا من الأمر معظما
والثاني:
ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعًا وأيدي المعتفين رواهقه
وقال الحرمي: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا، سألته عنها فعرف ألفًا ولم يعرف الخمسين1. أما شواهد اللغة والغريب فلم يحصها الرواة؛ لأن مادتها أكثر شعر العرب، ولأن اللغة لم تكن علمًا برأسه.
شواهد أخرى:
وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكان رواية الشعر فيهم يومئذ عامة؛ قال ابن قتيبة في "التأويل": وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يرده إلى مذاهبهم ويجعلوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] أي: علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:
ولا يكرسئ علم الله مخلوق2
ونقل الجاحظ في "الحيوان" أنهم يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأن عرب الجاهلية رأت الرجوم, ووضعوا أشعارًا في ذلك منها ما نسبوه لأوس بن حجر، وهو قوله:
فانقض كالدري من منحدر ... لمع العقيقة جنح ليل مظلم
قال الجاحظ: فخبرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخر لأسامة صاحب روح بن همام وهو الذي كان ولدها.
ونجتزئ من الكلام عن شعر الشواهد بهذا المقدار؛ لأنه جماع الباب كله على كثرة شواهده، ونوفر فوائده.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)