المنشورات
اختلاف الروايات في الشعر:
وقد كان العرب ينشد بعضهم شعر بعض، ويجري كل منهم في النطق على طبعه ومقتضى فطرته اللغوية، فمن ثم يقع الاختلاف الصرفي واللغوي الذي نراه في بعض الروايات، وقد يغير العربي فيما يتمثله من الشعر كله بأخرى يراها أليق بموضعها وأثبت في معناها، أو تكون الكلمة قد أصابت هوى في نفسه؛ لأنهم إنما يتمثلون الشعر لغير الغرض اللغوي الذي قامت به الرواية، وذلك كقول أبي ذؤيب الهذلي.
دعاني إليها القلب إني لأمره ... مطيع فما أدري أرشد طلابها
وهي رواية أبي عمرو بن العلاء، ولكن الأصمعي رواه على نقيض هذا المعنى فقال:
"عصاني إليها القلب...."
البيت. وظاهر أن هذا التناقض في الرواية لا يكون من الشاعر، إنما هو تفاوت في الاستحسان لا غير.
وكان الرواة ينقلون الشعر على ما يكون فيه من مثل هذا الاختلاف ولا يبالون أمره؛ لأنهم يريدون لغة الشعر، والشعر متى جاء عن أعرابي كان حجة؛ لأن لسان العربي لا يطوع بغير الصواب، ولهذا تختلف الروايات في بعض الأبيات وهي في الأصل غير مختلفة.
ومن أسباب الاختلاف، أن الشعراء في الصدر الأول كانوا يعتمدوا على الحفظ، ولكنهم لا يثبتون من شعرهم كل لفظ بعينه، بل ربما أنشد الرجل منهم أبياتًا فتروى عنه، ثم تأتي الأيام فينسى بعض ألفاظها؛ فلا يكون إلا أن يضع غيرها ثم ينشد الأبيات على وجه آخر؛ فتروى أيضًا؛ ومن ثم تجتمع الروايتان في شعره أو الروايات المختلفة؛ ولهذا قال ذو الرمة لعيسى بن عمر الثقفي: اكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام!
ومن الرواة من كان يغير في ألفاظ بعض الأبيات لتوجيه حجته وإنهاض دليله فيروى عنه البيت على وجهه المغير؛ وذلك فاش بينهم، وخاصة في رواة الكوفيين، ومنهم من كان يغير في الدواوين المكتوبة ليعذر بها عند الخلاف ويقيم منها الحجة على الرواية الصحيحة؛ فيكون ذلك سببًا في الاختلاف.
ولا تنس ما ينشأ عن التصحيف في الكلمات المتشابهة؛ فإنه من بعض أسباب الاختلاف أيضًا، وشواهده كثيرة في كتاب "التصحيف" للعسكري.
وهذا وذاك غير ما يكون من تزيد بعض الرواة في الشعر حتى يخرج إلى الوضع والصنعة كما مر في محله، ثم يجيء غيره فينقص أو يزيد ويقدم أو يؤخر، ويعقبهما ثالث فيصيب أبياتًا حسنة على روي تلك القصيدة فيدسها فيها ويرويها على أنها منها، ثم يأتي رابع فيرى اختلاف النسبتين في القصيدة الواحدة فيسقطهما جميعًا وينحلها شاعرًا آخر، وهكذا؛ ومما استجمع كل ذلك الاختلاف هذه القصيدة التي أولها:
تقول ابنة العبسي قد شبت بعدنا ... وكل امرئ بعد الشباب يشيب
ومنها شاهد النحاة المشهور:
"لعل أبي المغوار منك قريب"*
وهي مرثية رواها القالي في أماليه، وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب الغنوي ... إلى أن قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي، وبعضهم يروي شيئًا منها لسهم، وزاد أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين. قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره، ثم قال: والمرثي بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار، واسمه هرم، وبعضهم يقول اسمه شبيب، ويحتج ببيت روي في هذه القصيدة:
"وأقام وخلى الظاعنين شبيب"
، وهذا البيت مصنوع والأول "كأنه أصح".
هذا، وقد بقي الكلام في انتحال الشعر ورواة الشعراء وشياطينهم وعمل أشعارهم وتدوينها وما إلى ذلك، وكلها مما يمكن أن يتصل نسبه بما نحن فيه من أمر الرواية، ولكنه بباب الشعر أقرب مشاكلة وأدنى اتصالًا، فأنزلناه ثمة في مراتبه، وألحقناه بتلك المطالب لفائدة طالبه.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)