المنشورات
القصاص:
وهم الذين يقصون على الناس، ويكون من علمهم التفسير والأثر والخبر عن الأمم البائدة غيرهم؛ ينقلون ذلك تعليمًا وموعظة؛ وكانوا في القرن الأول يقدمونهم في بعض حروب بني أمية ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وفضائلهم وما وعدوا به في الجنة مما لا عين رأيت ولا أذن سمعت، وليحمسوهم بذلك قبل مباشرة القتال، حتى لا تحجزهم رهبة ولا يملكهم فزع ولا ترد وجوههم آمال الحياة؛ وهو وجه من الحيطة في السياسة وحسن النظر في التدبير؛ وكان ذلك دأب الحجاج الثقفي أمير العراقيين لبني أمية، في حروبه ووقائعه؛ لأن أكثر من قاتلهم كانوا من المستميتين ديانة أو حمية، كالخوارج والناقمين عليه وعلى بني أمية من العرب، وأخبارهم مشهورة.
أما قبل هذه الدولة فكانت الموعظة في الحروب والتذكير بما يصدق الله من وعده للمجاهدين في إعلاء كلمته شأنًا من شئون القواد يخطبون بذلك على الناس ولا يتجاوزون به آيات من القرآن، وجملًا من الحديث وكلمات لهم بين ذلك.
ولم يكن القصص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لاجتماع كلمة المسلمين، ولقرب العهد من الرسالة؛ وإنما أحدثت القصص في زمن معاوية، حين كانت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مقصورة على الموعظة الحسنة والتذكير وما إلى ذلك؛ وأول من قص من الصحابة، الأسود بن سريع، وكان يقول في قصصه إذا ذكر الموت وخاطب الميت.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... إلا فإني لا إخالك ناجيا
ثم كان أول من قص من التابعين بمكة، عبيد بن عمير الليثي؛ وقد جلس إليه عبد الله بن عمر وسمع منه، فكان ذلك داعية إلى إقبال الناس ورغبتهم في استماع القصص لمكان ابن عمر من الدين والورع؛ وقد أقرته كذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولم تنكر عليه، فحدث عطاء قال: دخلت أنا وعبيد عليها، فقالت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير؛ فقالت رضي الله عنها: قاص أهل مكة؟ قال: نعم! قالت: خفف، فإن الذكر ثقيل.
وقد مر بك آنفًا أن معاوية اتخذ قاصا كان يجلس إليه متى انفتل من صلاة الفجر؛ فلا غرو أن يتابعه أهل الشام على ذلك ويكثر القصص فيهم؛ ولعل هذا من دهاء معاوية في السياسة.
ثم صار القصص مما يلقى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة واتخذت له حلقة كحلق الدروس؛ وأول من لزم ذلك فيه، مسلم بن جندب الهذلي، وهو إمام أهل المدينة وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: من سره أن يسمع القرآن غضا فليسمع قراءة مسلم بن جندب! ثم كان أول من اتخذ تلك الحلقة في مسجد البصرة، جعفر بن الحسن.
ولم يكن القصص في القرن الأول مرذولًا، ولا كانوا يرون به بأسًا؛ لأن فنونه إنما ترجع إلى القرآن والحديث، ولم يكن يشوبه شيء إلا ما كانوا يسمونه "بالعلم الأول" وهو ما يتعلق بأخبار.
الأمم السالفة، وأكثره يأخذونه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعمن أسلم منهم، وبعض هؤلاء كان غزير العلم واسع الحيلة في قصص الأولين، كعبد الله بن سلام أسلم عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكعب الأحبار الذي أسلم في خلافة عمر وتوفي سنة 32هـ؛ وعن هذين الرجلين -ووهب بن منبه المتوفى سنة 114هـ- أخذوا سواد قصصهم مما يتعلق بأخبار الأمم وأحوال الأنبياء والنذر الأولى وما يجري مع ذلك؛ وكان وهب من الأبناء "أبناء الفرس" لأن جده جاء إلى اليمن فيمن بعثهم كسرى حين استنجدوه على الحبشة، وقد أخذ آباؤه عن اليمن أخبار اليهود، وأخذوا عن الحبشة أخبار النصارى، ثم كان وهب يعرف اليونانية أيضًا، فاتسع بذلك علمه، حتى قالوا في بعض ما نقلوه عنه: إنه قرأ من كتب الله اثنين وسبعين كتابًا، وهو أول من صنف قصص الأنبياء في الإسلام.
وممن أخذوا عنهم أيضًا، طاوس بن كيسان التابعي، وهو من الأبناء، وتوفي سنة 106هـ ثم ورث الرواية عنه ابنه عبد الله بن طاوس.
ولما كان القرن الثاني وانتهى عصر كبار القصاص من التابعين، ورأسهم الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ1 -وكان رضي الله عنه مفننًا ثقة في كل ما يتعاطاه من العلوم- نشأت بعده الطبقة التي أخذت عنها العامة وقد اضطربت الفتن وكثر الكلام وفشت الأكاذيب في الحديث وفي أخبار العرب وفي الشعر، فصار هم القاص أن يجيء بالغرائب، ويكثر من الرقائق؛ لأن أهل العلم انصرفوا إلى حلقات الرواية، ولم يبق في حلقات القصاص إلا العامة وأشباههم؛ وقد علمت مذهبهم والشأن فيما ينفق عندهم؛ فمن ثم ساءت المقالة فيهم، وصار القاص عند أهل العلم أحمق ممخرقًا لا يعرفونه بغير ذلك، إلا قليلًا ممن استوعبوا وتبينوا وجروا في مذهب الرواة "وهو نقل الكذب الذي لا بأس به وإسناده إلى أهله". وامتازوا مع ذلك بالفصاحة والبيان. ويبدأ تاريخ هؤلاء بعد الحسن البصري؛ بموسى بن سيار الأسواري، قال الجاحظ: وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار؛ ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرأ في محراب من موسى بن سيار، ثم عثمان بن سعيد بن أسعد، ثم يونس النحوي، مث المعلى.
قال: ثم قص في مسجده "بالبصرة" أبو علي الأسواري ابن فائد، ستا وثلاثين سنة، وابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما يفسر آية واحدة في عدة أسابيع، كأن تكون الآية قد ذكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكان يقص في فنون كثيرة من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك. وكان يونس بن حبيب يسمع منه كلام العرب ويحتج به. وخصاله المحمودة كثيرة.
ثم قص من بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، ولم يدرك في القصاص مثله. وكان يقص معهما وبعدهما ملك بن عبد الحميد المكفوف، فأما صالح المري فإنه كان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس، قال الجاحظ: فذكر أصحابنا أن سفيان بن حبيب لما دخل البصرة وتوارى عند مرحوم العطار "من أصحاب الحديث، كان في أواخر القرن الثاني" قال له مرحوم: هل لك أن تأتي قاصا عندنا فتتفرج بالخروج والنظر إلى الناس والاستماع منه؟ فأتاه على تكره؛ لأنه ظنه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول: حدثنا سعيد عن قتادة، وحدث قتادة عن الحسين رأى بيانًا لم يحتبسه، ومذهبًا لم يكن يدانيه، فأقبل سفيان على مرحوم، فقال: ليس هذا قاصا، هذا نذير!
ولما نضجت العلوم في القرن الثالث، ذهب القصاص وخلفهم الوعاظ من المتصوفة والزهاد، إذا كان اسم القاص قد أصبح لقبًا عاميا مبتذلًا، وأكثر المتصدرين في الوعظ إنما يكونون من أهل الحديث المتسعين في العلوم، ولا حاجة إلى الكلام عنهم، ولم يزد المتصوفة في الأخبار إلا ما يزعمون أنهم احتووه بعلم خاص، والله أعلم بغيبه.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)