المنشورات

الرواة:

فرغنا من القول في الرواية ونشأتها وتأريخها والوجوه التي تقلبت عليها، وبقي الكلام على الرواة وعلومهم ما تحققوا به من المذاهب وما تميزت به طوائفهم عند أهل المقابلة والتنظير، ثم ما يداخل ذلك من معان حين تعرض، وأعراض حين تتوافى لتورد بها الفائدة مورودها ويصدر الأدب مصدره، وهو منزع لا ننكر أن المتطاول إليه هو المقصر عنه، وأن المبتدئ فيه فهو المنتهي منه؛ وذلك لأن رواتنا وإن قدح بعضهم في بعض جرحًا وتعديلًا، وتوسعوا في مذاهب النقد تعريضًا وتطويلًا؛ إلا أنهم لم يدونوا شيئًا لمن بعدهم كما دون أهل الحديث، بل اكتفوا بأن هذا الأمر كان منهم على المشاهد والعيان؛ أو قريبًا منهما بالسند والسماع، فألقوا لنا بذلك الشغل الطويل، والعناء الوبيل؛ ولو أنهم دونوا الطبقات وميزوها وفصلوا مراتبها وساقوا أخبار الرجال، على نحو ما فعل نقاد الحديث، وهم كما قالوا: "عيار هذا الشان، وأساس هذا البينان" لقد كانوا أحسنوا لأهل التاريخ الإحسان كله.
ولشذ ما كانوا يتحوبون "عفا الله عنهم" فيما يهجن به بعضهم بعضًا مما يسبق من الظنة إلى أحدهم ويتوجه من الشبهة عليه، فلا يحبون أن يثبتوا من ذلك شيئًا؛ لأنه جهاد لا يراد به وجه الله كما هو الشأن في الحديث؛ فكان الأمر بينهم مقصورًا على المناقضات والمنافسات، بيد أن كل طبقة منهم كانت تحكي عن سابقتها أشياء مما تناقلته، حتى انتهى جماع ذلك إلى مدوني كتب الطبقات، وإلى المتناظرين في تصنيف الكتب التي وضعوها للكلام في علماء المصرين، وإلى المصنفين في اللغة من متأخري الرواة الذين تعقبوا السابقين وتتبعوا ما نقل عنهم، كالأزهري صاحب "التهذيب" وغيره، فرأى كل أولئك أن القليل الذي تأدى لا يعطى من حكم النقد المباح ما كان له في زمنه، فيعتبر من الكلام المعفو عنه الذي بعثت عليه المعاصرة كما أجراه أهله، فلا يبقى له شأن متى وضح الحق وظهر وجه الصواب وتمهدت به العلوم بل رأوا فيه مادة لما كانوا بسبيله، ورأوا أن التاريخ قد أحال تلك المناقضات بعد أن طوى أشخاصها ونفض عنها رَهَج الحفيظة ووهج الأنفاس، فحرصوا عليها ودونوها، ولولا ذلك لعفا هذا الموضع من التاريخ.
أول من صنف في طبقات القوم، أبو العباس المبرد المتوفى سنة 285هـ فإنه وضع كتابًا في علماء البصريين، وكان بصريا، ثم صنف أبو الطيب اللغوي المتوفى سنة 338هـ "وقيل بعد الخمسين" كتابه "مراتب النحويين"، جمع فيه البصريين والكوفيين، ثم اطرد التصنيف بعد ذلك، فوضع السيرافي المتوفى سنة 368هـ كتابه في "طبقات النحاة" البصريين، وصنف أبو بكر الزبيدي الأندلس المتوفى سنة 379هـ "طبقات النحاة" وميز فيه البصريين من الكوفيين، ثم ظهرت بعد ذلك كتب كثيرة لا حاجة إلى الكلام عنها؛ لأننا إنما نريد أن نعين تأريخ التدوين فيما تناول أحوال الرواة ومناقضاتهم، ولم يكتب من ذلك شيء قبل القرن الثالث، ولا نعلم أنه كتب منه شيء قبل الذي أورده الجاحظ في تضاعيف كتبه، وهو قد توفي سنة 255هـ، وليس غيره أولى بأن يكون أول من اقتحم هذا الباب من الكتابة، وإن كان ما أورده قليلًا لا حفل به ولا قدر له في جانب ما تناولناه من كتب الطبقات على اختلافها وكتب أخرى، "كالتهذيب" للأزهري، و"التصحيف" للعسكري، و"الخصائص" لابن جني، وقد كسر فيه بابًا على ما يكون من قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضًا.
ولقد انتقد كثير من جلة العلماء -وخاصة علماء الأصول- إهمال الرواة والقائمين باللغة والنحو أن يبحثوا عن أحوال هذه العلوم ويفحصوا عن جرح رواتها وتعديلهم، واعتذر بعضهم من ذلك بأنهم أهملوه ولم يجاروا فيه رواة الأثر؛ لأن الدواعي كانت متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفة التي تحمل الواضعين على الوضع. قال: وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليه في غاية الضعف. ولذلك اكتفى العلماء فيه بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة، فإن شهرتها وتداولها يمنع من ذلك مع ضعف الداعية إليه. وقد رد السيوطي على أصحاب هذه الأقوال بما زعمه "الجواب الحق" ولم يزد على أن احتج بما جاء في كتب الطبقات!
البصرة والكوفة:
وقبل أن نمضي فيما أخذنا فيه، نسوق هذه الكلمات الموجزة في تاريخ هذين المصرين العظيمين اللذين خرج منهما علم العرب، واللذين يرجع إليهما سند العربية في سائر الأمصار.
أما البصرة فقد اتخذها المسلمون مصرًا كانوا يغزون من قبل البحرين ليشتوا فيه ثم ليلوذوا به إذا رجعوا من غزوهم، وأول من مصرها عتبة بن غزوان بن ياسر، وذلك في سنة أربع عشرة للهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أقرب إلى البوادي الصريحة من الكوفة، تكاد تقابل في وضعها سرة البادية التي ضربت فيها القبائل العربية الفصيحة، ولذا فصح أعرابها وتميز أهلها بالصحيح، وكانت مثابة الجفاة الخلص من أعراب البادية؛ وقد كان فيها المربد، وهو عكاظ الإسلام، يقوم فيه الخطباء ويتنافر الأشراف ويتناقض الشعراء؛ ومن ثم ضربوا المثل بأدب البصريين، وجعلوا هذا الأدب فيهم بمنزلة ما اختصت به الأمم طبيعة من الميراث التاريخي, كحكمة اليونانيين، وصناعة أهل الصين، وما إليهما.
وأما الكوفة فكان تمصيرها بعد البصرة بستة أشهر، على قول، وبعام أو عامين على قول آخر1؛ واتخذها المسلمون مصرًا حين كانوا يغزون من قبل فارس، وأكثر أهلها من عرب اليمن، وكان يطرأ عليها ضعاف الأعراب مما فوق البادية الصريحة؛ ولذا لانت جوانب ألسنتهم وضعفت فصاحتهم وكان الميل إلى الشاذ متأصلًا فيهم طبيعة؛ فأسرع الفساد في ألسنتهم قبل أن يفشو مثل ذلك في البصريين؛ وأعظم ما اشتهرت به الكوفة، ميل أهلها إلى الطاعة ديانة، دون البصرة التي اشتهر أهلها في التاريخ بالنزوع إلى الشقاق والعصيان وبالعصبية العربية؛ ولذا كانت الكوفة مثلًا مضروبا في فقه أهلها، كما ضربوا البصرة مثلًا في الأدب، وكما ضربوا المثل بالمدينة في القراءة، وبمكة في المناسك1؛ وبظاهر الكوفة كانت منازل النعمان بن المنذر، والحيرة والخورنق، والسدير، وما هناك من القصور والمتنزهات، وكل ذلك غير طبيعي في تاريخ الفصاحة العربية.
ولما مصرت بغداد وجعلها المنصور ثاني الخلفاء العباسيين مدينة -وكان قد اختطها قبله أخوه أبو العباس السفاح وشرع في عمارتها سنة 145هـ ونزلها سنة 149هـ، وكانت قرب الكوفة- وهي ما هي، حاضرة الدنيا ومدينة الإسلام ومظهر أبهة الخلافة وجلال الملك, كان علماء الكوفة أسرع الناس إليها، فأكرم العباسيون لقاءهم، وبسطوا لهم بالعطاء، غير أن ذلك لم يزدهم إلا ضعفًا وشذوذًا، حتى عيرهم البصريون بأنهم يأخذون عن باعة الكواميخ كما تقدم في موضعه.
أما بغداد نفسها فلم يعتد البصريون بأحد من علمائها، ولا يرونها مدينة علم، وإنما هي عندهم مدينة ملك، وما فيها من العلم فمنقول إليها ومجلوب للخلفاء وأتباعهم؛ قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن ادعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة2. 










مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید