المنشورات

تاريخ القرآن: جمعه وتدوينه

أنزل هذا القرآن منجما في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية، وذلك بحسب الحاجة التي تكون سببًا في النزول، وليثبت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن آياته كالزلازل الروحية، ثم ليكون ذلك أشد على العرب وأبلغ الحجة عليهم وأظهر لوجه إعجازه وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.
ولولا نزوله متفرقًا: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يلبس الحق بالباطل، وينفس عليهم أمر الإعجاز, ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل؛ لأنهم قوم لا يقرءون ولا يتدارسون، ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربو عليه ويضعف، وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل؛ أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم ألبتة لا قوة ولا حيلة، فإن العجز عن صنع المادة لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية.
وبخاصة إذا اعتبرت أن أكثر ما أنزل في ابتداء الوحي واستمر بعد ذلك من لدن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حراء1 فيتحنث فيه الليالي، إلى أن هاجر من مكة, إنما هو من قصار السور، على نسق يترقى إلى الطول في بعض جهاته. وذلك ولا ريب مما تتهيأ فيه المعارضة بادئ الرأي إذا كانت ممكنة؛ لأنه مفصل آيات، ثم لقرب غايته ممن ينشط إلى معارضته والأخذ في طريقته، دون ما يكون ممتد النسق بعيد الغاية، فتصدف النفس عن جملته الطويلة، ويخلف نشاطها فيه؛ لأن للقوة النفسية حدا إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه، وهذا أمر يعرفه من يرى شاعرًا يعد أبيات القصيدة الرائعة قبل أن يقرأها، أو كاتبًا ينظر في أعقاب الرسالة الجيدة ولما يأخذ في أوائلها.
وهلم مما يجري هذا المجرى.
وقد كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة 622 إلى المدينة، فنزل القرآن مكيا ومدنيا. وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها، وفي بعضها أن ذلك كان قبل موته عليه السلام بأحد وثمانين يومًا، في سنة إحدى عشرة للهجرة، وأي ذي كان فإن مدة نزول القرآن توفي على العشرين سنة. وإنما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها، وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على حسب النوازل وكفاء الحادثات، ليكون تحولهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه، وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:
وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخاف1 والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كل منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن ما ليس فيه ريب أن منهم قومًا جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد، فإن المصاحف حتى اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبي، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك، وأما أبي فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زويد فقرأه بعدها وكان عرضه متأخرًا عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة والسلام وكان يصلي إلى أن لحق بربه، ولذلك اختار المسلمون ما كان آخر كما ستعرفه.
أما علي بن أبي طالب فقد ذكروا أن له مصحفًا جمعه لما رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي "الفهرست" لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفًا بخط علي يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبرًا شيعيا؛ لأنه غير شائع.
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في الصدور، وفيما كتبوه عليه، ثم نهض أبو بكر بأمر الإسلام، وكانت في مدته حروب أهل الردة، ومنها غزوة أهل اليمامة، والمحاربون أكثرهم من الصحابة ومن القراء، فقتل في هذه الغزوة وحدها سبعون قارئًا من الصحابة "ويقال سبعمائة"، وكان قد قتل منهم مثل هذا العدد ببئر معونة2 في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهال ذلك عمر بن الخطاب، فدخل على أبي بكر رحمهما الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلت عليه وعمر مسربل؛ فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه؛ وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك، وقلت: يفعل ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. وقال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب.
وهذا الذي فعله أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذين استحر بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعد به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيد نسخة واحدة، وهو قد تتبع ما فيها من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ؛ ولأنه من كتبة الوحي، ثم لأنه صاحب العرضة الأخيرة؛ وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع؛ فإن في بعض الروايات أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما الكتابة فهي لزيد بالإجماع.
وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظر بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة 13هـ صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان، ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كل مصر عن رجل من بقية القراء.
فأهل دمشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري -وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب- وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار -إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المواطن على جهاد أعدائهم- يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أجازها، لا يمنع أن يحيك في صدره بعض الشك وأن ينطوي منها على شيء, وإذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة، فلا يلبث أن يجري ذلك الاختلاف مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيرًا من بعضه، ويظن منه الصريخ والمدخول والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلك، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم ثم مردوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والملاحاة وإلى أن يرد بعضهم إلى بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرم أنها الفتنة لا تفنأ بعد ذلك من دم.
ولقد نجمت هذه الناشئة يومئذ، فلما كانت غزوة إرمينية، وغزوة أذربيجان، كان فيمن غزاهما مع أهل العراق حذيفة بن اليمان، فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، أنهم لا يجرون من ذلك على أصل في الفطرة اللغوية كما كان العرب يقرءون بلحونهم، ورأى ما يبدر على ألسنتهم حين يأتي كل فريق منهم بما لم يسمع من غيره، إذ يتمارون فيه حتى يكفر بعضهم بعضًا، ولم ير عندهم نكيرًا لذلك ولا إكبارًا له، بل كانوا قد ألفوه بين أنفسهم، وصار من عاداتهم وأمرهم، ففزع إلى عثمان فأخبره بالذي رأى، وكان عثمان قد رفع إليه أن شيئًا من ذلك يكون بين المسلمين الذي يقرئون الصبية ويأخذونهم بحفظ القرآن فينشئون وبهم من الخلاف بعضهم على بعض، فأعظم رحمه الله أمر هذه الفتنة، وأكبره الصحابة جميعًا؛ لأن الاختلاف في كتاب الله مَدْرجة إلى مخالفة ما فيه، ومتى أهملوا بعض معانيه لم يكن بد أن يتصرفوا ببعض ألفاظه، وإنما هو اجتراء واحد فيوشك أن يكون ذلك مساغ للتحريف والتدبيل، فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها، حذار تلك الردة المشتبهة، وإشفاقًا على الناس إن يصيروا كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فأرسل عثمان إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانهم1.
قال زيد -في بعض الروايات عنه: فلما فرغت عرضته عرضة فلم أجد فيه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2 قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدها عند خزيمة -يعني ابن ثابت- فكتبتها ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخر السورة3, فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضًا فأثبتها في آخر براءة ولو تمت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئًا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته فعرض المصحف عليها فلم يختلف في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمه فأعطاهم إياهم فغسلت غسلًا.
قلنا: وكلام زيد نص قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه، إذ كان يعرض ما في الصحف على ما ربط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نص كذلك على أن زيدًا كان لا يكتفي بنفسه بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشية أن يكون موضع ظِنّه وإن كان الصحابة -رضي الله عنهم- قد أجمعوا على الثقة به، فلم يثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظ غيره, والآخر من حفظه.
ثم بعث في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وكانت سبعة -في قول مشهور- فأرسل منها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام1 ثم أمر بما عدا ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد. وكان جمع عثمان في سنة 25 للهجرة.
وإنما أراد عثمان بذلك حسم مادة الاختلاف؛ لأنه أمر يمد مع الزمن وتنشعب الأيام به, وهو إن أمن في عصره لم يدر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عربًا على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف. ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته، وأن الاختلاف كان بابًا إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئًا أكثر من أنه حَصّن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.
ولم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور إلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان2, أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعًا بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديمًا وتأخيرًا, ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية3 فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه، وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبي بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه "الفهرست"، وقال ابن فارس: إن السور في مصحف علي كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف.
أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت, وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضًا، لما مر في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم1.
ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيبًا أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدون في إخراجها وانتساخها. ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات2.
وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعابا لما في الصدور، فكانوا لا يقلبون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرءون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كتبت عند عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين"، و"لا تبديل للخلق" قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "خلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل" وكتب "يتسنه" ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم.
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملًا على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حفظته الذين جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع مه الباطل شيئًا.
ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسنم في الرد والتأويل كل طريق وعر؛ كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا لا يتدارأ فيها الرواة، من علا منهم ومن نزل، وإنما كان ذلك لأن القرآن أصل هذا الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن؛ وتألب الأحداث وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله وضربتهم الفتن والشبهات مقبلًا بمدبر ومدبرًا بمقبل, فصار كل نزع إلى الاختلاف، يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يتدسس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعنف بها في أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهًا.
ونحسب أن أكثر ذلك مما افترته الملحدة وتزيدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم1، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ويرى فيه حجته على مذهبه وبينته على دعواه؛ ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم في الحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون أو ممن تعارضهم الغفلة في التمييز، وذلك سواء كله ظلمات بعضها فوق بعض، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وقد وردت روايات قليلة في أشياء زعموا أنها كانت قرآنًا ورفع, على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرر الأحكام عن ربه إذا لم ينزل بها قرآن؛ لأن السنة كانت تأتي مأتاه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت الكتاب ومثله معه" يعني السنن. 

وعلى هذا الحديث يخرج في رأينا كل ما رووه مما حسبوه كان قرآنًا فرفع وبطلت تلاوته على قلة ذلك إن صح؛ لأنه يكون وحيًا، وليس كل وحي بقرآن، على أن ما ورد من ذلك ورد معه اضطرابهم فيه وضعف وزنه في الرواية، وأكبر ظنا أنها روايات متأخرة من محدثات الأمور، وأن في هذه المحدثات لما هو أشد منها وأجدى بشؤمه, ولو كان من تلك شيء في العهد الأول لرويت معها أقوال أخرى للأئمة الأثبات الذين كان إليهم المفزع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا يومئذ متوافرين، وكلهم مقر لذلك قوي عليه؛ وكانوا يعلمون أن المراء في القرآن كفر وردة، وإن إنكار بعضه كإنكاره جملة، وإن أجمعوا على ما في مصحف عثمان وأعطوه بذل ألسنتهم في الشهادة، أي: قوتها، وما استطاعت من تصديق.
ونحن من جهتنا نمنع كل المنع، ولا نعبأ أن يقال إنه ذهب من القرآن شيء، وإن تأولوا لذلك وتمحلوا، وإن أسندوا الرواية إلى جبريل وميكائيل ونعتد ذلك السوأة الصلعاء التي لا يرحضها من جاء بها ولا يغسلها عن رأسه بعد قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أفترى باطلهم جاءه من فوقه إذن؟
ولا يتوهمن أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نص في أن ذلك القول الصحيح ألبتة، فإن الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بها أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك العهد هو ما هو، ثم بما وَهِل عنه بعضهم1 مما تحدثوا من أحاديثه الشريفة، فأخطئوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب2 أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يشبه لهم أن الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا.
وثبت أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمم لخوف الوهم، مع أن عمارًا ممن لا يتهم بتعمد الكذب، ولا بالكذب وهلة، لصحبته وسابقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أذن له عمر في رواية هذا الحديث مع شكه هو في صحته.
على أن تلك الروايات القليلة3 إن صحت أسانديها أو لم تصح فهي على ضعفها وقلتها مما لا حفل به؛ ما دام إلى جانبها إجماع الأمة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق.
وبعد فما تلك الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتن التي تعاقبت والأحداث التي استفاضت، والانشقاق الذي ارفضت به عصا الإسلام, بأقل شأنًا ولا أضعف خطرًا من هذا كله ومثله معه من ضروب الأقاويل؛ حتى لا يقتحم مجترئ ولا يستهدف مفتر ولا يبالغ مبطل ولا ينحرف متأول، وحتى لا يروى من أشباه ذلك دقيق أو جليل؛ وإنما قياس الباطل بالعلم الحق، وقياس الظن باليقين الثقة، وأنت تعلم أن كل ما رووه لم يأت من قِبل الإجماع، وليس له من هذه الحجة مادة ولا قوة، ولو أن الأمر كان إلى الرأي والنظر لقلنا: لعله ولعلنا، ولكنها الرواية وملاكها، والأدلة واشتراكها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . 












مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید