المنشورات
قراءة التحلين
قراءة التلحين:
ومما ابتدع في القراءة والأداء، هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتنافله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإقناع وهو الغناء التقي.... ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم "الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا كأنه يرعد من البرد أو الألم.... "والترقيص" وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة؛ "والتطريب" وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب موضعه، "والتحزين" وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم "الترديد" وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه.
وإنما كنت القراءة تحقيقًا، أو حدرًا، أو تدويرًا1 فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ بالتلحين والتطنين عبيد الله بن بكرة، وكانت قراءته حزنًا ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عمر بن عبيد الله، فهو الذي يقال له قراءة ابن عمر، وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه وعرفت به؛ لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين2.
وكان القراء بعده: كالهيثم، وأبان، وابن أعين، وغيرهم ممن يقرءون في المجالس أو المساجد، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء، والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسا خفيا، ومنهم من يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فإنه كان يختلس المد اختلاسًا فيقرؤها "لمسكين"، وإنما سلخه من صوت الغناء كهينة اللحن في قول الشاعر3:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتًا يوافق عندي بعض "مفيها"
أي: ما فيها، وكان ابن أعين يدخل الشيء من ذلك ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء وافتنوا فيه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها.
وقال صاحب "جمال القراءة": إن أول ما غني به القرآن قراءة الهيثم "أما السفينة" كما تقدم، فلعل ذلك أول ما ظهر منه.
ولم يكن يعرف من مثل هذا شيء لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا لعهد أصحابه وتابعيهم إلا ما رواه الترمذي في "الشمائل" واختلفوا في تفسيره؛ فقد روي بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة يوم الفتح "فتح مكة" وهو يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال: فقرأ ورجع. وفسره ابن مغفل بقوله: آآآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثلاث مرات ولا خلاف بينهم في أن هذا الترجيع لم يكن ترجيع غناء1.
وكان في الصحابة والتابعين رضي الله عنهم من يحكم القراءة على أحسن وجوهها ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يسمع منه القرآن غضا طربًا، لفصاحته وعذوبة منطقه وانتظام نبراته، وهو لحن اللغة نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة، على أن كثيرًا من العرب كانوا يقرءون القرآن ولا يعفون ألسنتهم مما اعتادته في هيئة إنشاد الشعر، مما لا يحل بالأداء، ولكنه يعطي القراءة شبهًا من الإنشاد قريبًا، لتمكن ذلك منهم وانطباع الأوزان في الفطرة، حتى قيل في بعضهم: إنه يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب.
وهذا عندنا هو الأصل فيما فشا بعد ذلك من الخروج عن هيئه الإنشاد إلى هيئة التلحين، وخاصة بعد أن ابتدع الزنادقة في إنشاد الشعر هذا النوع الذي يسمونه التغيير، ولم يكن معروفًا من إنشاد الشعراء قبل ذلك2 وهو أنهم يتناشدون الشعر بالألحان فيطربون ويرقصون ويرهجون؛ ويقال لمن يفعلون ذلك: المغبرة3. وعن الشافعي رحمه الله: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغيير ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن.
وبالجملة فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عد العلماء القراءة بغير هذا التجويد لحنًا خفيا؛ لأن المختص بمعرفته وتمييزه هم أهل القراءة الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أئمة أهل الأداء.
مصادر و المراجع :
١-تاريخ آداب العرب
المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار الكتاب العربي
15 ديسمبر 2024
تعليقات (0)